كلام فى مالطا - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 6:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كلام فى مالطا

نشر فى : الجمعة 25 نوفمبر 2016 - 9:40 م | آخر تحديث : الجمعة 25 نوفمبر 2016 - 9:40 م
فى بناء حجرى فاتن تحتضنه فاليتا؛ الجميلة الرائقة التى تبدو للزائر وكأن يد المدنية الحديثة لم تضربها بعد ولم تهذب طبيعتها وروحها القديمة، التقيت واثنان مِن الكتاب أحدهما قادم مِن صوفيا والآخر من ويلز، على خلفية دعوة وجهها إلينا المسئولون عن معرض الكتاب السنوى. صرنا مِن جنسيات ثلاث فى بلد يحمل جنسية رابعة: مالطا.

جمع بيننا نحن القادمين من الشرق والغرب، موضوع الجلسة الذى جئنا نناقشه ونجيب على أسئلة يطرحها الحاضرون حوله: ماذا عن حال الأدب فى ظل الأنظمة الشمولية؟. استقر بنا المقام خلف المنصة كلٌ على مقعده، بينما راح مدير الجلسة وهو صحفى مالطى الأصل يوجه إلينا الأسئلة المتتالية فى حنكة ومهارة، أحيانا مُسترشدا بترتيب جلوسنا وأحيانا أخرى حسبما تسير بنا المناقشة ويتضح مِنها مَن بيننا هو الأولى والأجدر باستلام دفة الحديث.

على كل حال كانت الأمور موزعة بيننا على السواء. عاش الكاتب البريطانى باتريك ماجينيس فى رومانيا وكتب عن شاوشيسكو، ووُلِد أليك بوبوف وعاش فى بلجاريا وله كتابات سوداوية ساخرة عن الأنظمة القمعية إضافة إلى رواية تحولت إلى فيلم سينمائى ناجح، بينما جئت أنا من قلب نظام يعدونه فى أفضل الأحوال دكتاتوريا وكتاباتى أغلبها عنه أدبا ونفسا واجتماعا.

***

قيل فيما قيل إن للكتاب والأدباء على وجه التحديد دورا عظيما. دورٌ فى خلق السرد الحافز للناس على التغيير، والداعم لمقاومتهم. ظهر السؤال الأبدى المُعجِز لنتجادل حوله جميعا كما هى العادة؛ هل على الكاتب والمثقف والأديب أن يمارس دورا أخلاقيا، هل يُنتظَر مِنه ــ على أقل تقديرــ التخلى عن انتماء سياسى يميل إليه، فيخلص للإبداع وحده ويظل مُحايدا لا يوالى طرفا على الساحة السياسية ولا يعادى آخر أم هو فى النهاية بشرٌ له ما لهم مِن أمزجة وأهواء؟

قلت ما أقول دوما: لا أهتم للانتماء السياسى منفردا، لكنى أرى أن الكتابة التى تكسر بطبيعتها الحدود والقيود المُكَبِلة للعقل، لحرى بها أن تدفع الكاتب لطلب الحرية، فإن طلبها لنفسها كان عليها أن يطلبها للآخرين أيضا، ربما كان على دين اليمين أو اليسار، ربما انتمى إلى حزب أو حركة أو جماعة، لكنه فى ظنى يجب أن يظل على دين الحرية والعدل لا ينحرف عنه ولا يغمض العين. قلت إن عديد المثقفين المصريين تخلوا عن دورهم المأمول فى الفترة الماضية ليمارسوا دورا أقرب إلى ما تفعل أبواق الفاشية التى عرفناها فى أعتى الديكتاتوريات وأشرسها، وثمة أسماء يستحى المرء أن يذكرها لما لها من تاريخ وإسهام رفيع فى حقول الأدب والمعرفة.

***

علق الحاضرون على الجلسة بعد انتهاءها بأنها سوداوية، قاتمة، أفقدتهم ما اختزنوا مِن مثالية وأمل، وخزلت طموحاتهم، فقد اتفقنا ثلاثتنا على أن الزمن الذى كان الأدب فيه قادرا على التغيير قد ولى وانقضى، وأن الكلمة فى قصيدة شعر أو رواية لم تعد قادرة على إشعال الثورة وتحريك الناس، بل ومنا مَن ذهب إلى أنها لم تحز أبدا هذه القدرة الباهرة. بالنسبة لى لم يعد الناس من الأصل يقرأون، الاهتمام الفردى الأكبر صار بما يُنتج كل منا مِن سرد يومى لا بما يقرأ. نتلقف المعلومة ثم نصنع الحكاية حولها، نعيد إنتاجها وصياغتها ويتولى معظمنا إضافة المكملات والمحسنات إليها بحيث تصبح أكثر إثارة وإمتاعا، ولقد تلاشت المسافة بين الحدث الحقيقى وبين الرواية والقصة وزال العجب وبات الواقع قصة مشوقة ومحزنة ومبهرة فى آن، دونما أدنى تدخل مِن الفنان. حاولت امتصاص جزءٍ مِن الأسى فقلت إن أغنية قد تحرك المشاعر إذا ذيعت فى الجموع، وفيلما سينمائيا قد يحرض الناس فى السياق الجمعى ذاته، لكن كلمات محبوسة بين دفتى كتاب، يقرأها فرد معزول، ربما لا تصنع ذياك التأثير. لم أحاول أن أكذب أو أتجمل لكنى كنت أقنع نفسى أيضا بأن للكلمة أثرا باقيا وصورا مُتعددة للإنجاز مهما لاحت عاجزة واهنة.

***

تشعبت بنا التفاصيل وتساءلنا ومعنا الجمهور إن جاز وصف بعض الأنظمة الحالية بكونها شمولية، وإن كان استخدام المفهوم مِن الدقة العلمية فى الحديث عن الصين مثلا أو كوريا الشمالية أو مصر. لم تكن الإجابة حاسمة قاطعة، فثمة محاولات لاستحضار الصيغة الشمولية للحكم فى بعض البلدان، لكنها باتت باعثة على الشفقة والرثاء فالوقت غير الوقت والتاريخ والسياق لا شك يختلفان عن حُقب سابقة. لم تعد الأنظمة مُتمَكِنة مِن السيطرة التامة على العقول ولا مِن حَجب المعلومات بشكل كامل ولا مِن خديعة الناس لفترات طويلة. تظهر الحقائق مهما بُذِلَت الجهود لإخفائها وتنكشف أساليب الخداع وتفشل الحيل التى طالما نجحت فى الماضى فيصعب العبث فى الأدمغة والتلاعب بها وبأصحابها كأنهم دُمى.

***

مالطا جزيرة صغيرة سكانها لا يزيدون عن نصف مليون نسمة، ومساحتها أكثر بقليل من ثلاثمائة كيلومتر مربع، وهى جمهورية برلمانية وبها مجلس نيابى واحد. لا أزمات سياسية عنيفة تضربها ولا انقلابات ومؤسسات عسكرية تستولى فيها على السلطة ولا حكم شمولى يجرى فى إطاره توجيه وعى الناس وتشكيله على هوى الحاكم، مع ذلك لدى أهلها شغف كبير بطرح التساؤلات وتلقى الردود المتباينة وهضمها وإعادة إرسالها فى صورة أسئلة جديدة تثير التفكير. «عند أهلها حماسة للمعرفة، ورغم صغر معرض الكتاب هناك لكنه عامر بمختلف ضروب الإبداع الفكرى حتى أنهم يسمونه «مهرجان» الكتاب».
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات