حول أحداث يناير (77).. تفسير لا تبرير - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 11:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حول أحداث يناير (77).. تفسير لا تبرير

نشر فى : الأربعاء 26 يناير 2011 - 10:19 ص | آخر تحديث : الأربعاء 26 يناير 2011 - 10:19 ص

 فى مقالى الأخير الذى قارن الأداء الاقتصادى والتنموى فى تونس ومصر، أشرت إلى موقف كل من الرئيسين بن على والسادات بمناسبة أحداث يناير فى البلدين. وفى تعليق لقارئ باسم «صحفى عجوز» وجه لى سؤالا: «ألست أنت الذى وقعت على قرارات رفع أسعار المواد الغذائية التى أدت إلى أحداث 18 و19 يناير عندما كنتم تشغلون منصب وزير التخطيط؟».

وقفت شيرى بجانب إنسان آلى (روبوت) ونطقت باسمه فاستدار ناحيتها. نظرت إليه فرد نظرتها بعيون ساهمة. مد يده فى اتجاه يدها ليلمسها برقة ونعومة. انتاب السيدة شيرى شعور غريب للغاية، تمنت للحظات لو أن الروبوت انتبه لها وحدها وامتنع عن الالتفات فى اتجاه زميل لها حاول التحدث إليه لجذب انتباهه. وجدت نفسها فجأة ترغب فى احتضان هذا الإنسان الآلى.


لماذا لم ترفض التوقيع أو تتحايل على عدم توقيعها كما فعل وزير التجارة حينئذ الذى رتب زيارة لبلجيكا ليهرب من توقيع هذه القرارات؟». وأوجه الشكر له أولا على موضوعية تعليقه، وثانيا على إعرابه عن تقديره لشخصى، رغم ذلك، وهو ما يهمنى لأن الثروة الوحيدة التى جمعتها طيلة حياتى هى حسن التقدير (فى الغالب) ممن تعرفوا على أعمالى.
وليسمح لى أن أفسر بإيجاز موقفى من تلك القرارات التى أدت لانتفاضة كنت أتمنى أن تؤدى لأن يقلع السادات من مشتاه فى أسوان إلى السعودية التى كانت له ببعض رجال الأعمال فيها صلات وثيقة.

أولا حين فوتحت فى أمر المشاركة فى وزارة ممدوح سالم الثانية، مارس 1976، كنت أتولى قيادة فريق من خبراء الأمم المتحدة يعاون مجلس الوحدة الاقتصادية العربية فى تحقيق التكامل الاقتصادى.

ورفضت فى البداية، غير أن د.أحمد أبوإسماعيل وكان وزيرا للمالية، طلب منى القبول لأن المرشح البديل لم يكن يملك القدرة على تسيير مركب التنمية إلى بر الأمان. وقبلت بعد أن وافقنى رئيس مجلس الوزراء على الأسس العامة التى عرضتها ليكون التخطيط سليما ينقذ البلاد من هوجة الانفتاح، متوقعا أن تنتهى مشاركتى بالتغيير الوزارى المتوقع فى نوفمبر من نفس السنة على أساس ما سمى آنذاك بالمنابر، وهى لعبة نأيت بنفسى عنها.

وفى بداية عمل مجلس الوزراء ناقش إزالة الدعم عن الدقيق الفاخر، الذى تقرر عندما تضاعفت الأسعار العالمية للقمح فى بداية 1973 ثلاث مرات.

وطرحت مقترحات من عدد من الوزراء، وكان موقفى يتلخص فى الآتى: إن القضية لا تعالج فى إطار ضغط النفقات العامة لتفادى عجز الإيرادات العامة عن تغطيتها، بل على أساس تولى الدولة مسئوليتها عن توفير الحد الأدنى للمعيشة لجميع المواطنين، ومراعاة التناسب بين أهل الريف (المنتجين) وأهل الحضر (المستهلكين)، وبين الاقتصاد المحلى والاقتصاد العالمى، بحكم ضرورة استكمال احتياجاتنا بالاستيراد، فكأن الدعم يصب فى جيوب المزارع الأمريكى.

ومن ثم يجب اعتبار الدعم إجراء مؤقتا، والتخلص منه فى أسرع وقت، برفع الدخول الدنيا. وآزرنى بعض الوزراء وفى مقدمتهم د. جمال العطيفى وزير الإعلام، فتقرر الرجوع عن الإزالة.

وفى محاولة لتغيير نظرة أجهزة الدولة إلى الخطة على أنها باب ثالث للموازنة العامة، يستباح الإنفاق منه، وانشغال اللجنة الوزارية للخطة بالنظر فى تخصيص اعتمادات للمشروعات، بدلا من معالجتها كبرامج تساهم فى بناء مجتمع الكفاية والعدل، طرحت تساؤلات حول عناصر استراتيجية التنمية، لتشارك جميع أجهزة الدولة فى التفكير فيها والإجابة عنها.

وبهذا تأتى الخطة معبرة عن فكر جماعى ولا تظل مسئولية وزير فرد كما هو الحال بالنسبة لتحكم وزير المالية فى الموازنة العامة غير أن الاستجابة كانت ضعيفة.


بالمقابل بدأ كل وزير يتصرف فى مجاله وفق مفهومه للانفتاح، وهو ما ترجمه وزير الصناعة إلى تشريد مسئولين عن وحدات القطاع العام، تمهيدا للتخلص منه. وترجمه وزير الكهرباء إلى مشروعات تعتمد على استيراد منشآت معدنية كبديل للإنشاءات الخرسانية المحلية، قائلا إنه ينجح فى الحصول عليها بقروض (يعلم الله ما تنطوى عليه من عمولات) على أن يتولى التخطيط سدادها مجبرا.

غير أن المشكلة الأشد تمثلت فى نموذج مبكر لتزاوج السلطة والأعمال، هو المهندس عثمان أحمد عثمان وزير الإسكان والتعمير الذى وثّق علاقته بالسادات، فكان يستمع إليه ويستشيره وهما يتنزهان فى استراحة القناطر. فقد اقترح إنشاء لجنة عليا دائمة لتعمير وتنمية الأراضى، تتحكم فى دراسة وتوجيه تنفيذ مشروعات التعمير الزراعية الصناعية ومتابعة تنفيذها، وتوضع المبالغ المرصودة فى موازنة الدولة لتلك الأغراض تحت تصرفها، وتقوم بقبول الهبات والتبرعات والإعانات والمساعدات من الأشخاص الطبيعية والاعتبارية والهيئات الدولية والأجنبية.

وتلتزم أجهزة الدولة بتنفيذ ما يعتمده رئيس مجلس الوزراء من قراراتها، بغض النظر عن الخطة القومية ولجنتى الإنتاج والتخطيط ومجلس الوزراء. وتصديت فى مذكرة بتاريخ 7/6/1976 لهذه المحاولة لإنشاء دولة فوق الدولة. كما تصديت لمحاولات أخرى من جانبه، منها تفصيل قانون للإسكان قبيل انتخابات الرئاسة بدعوى استرضاء الجماهير، مؤكدا أن السادات سينتخب لا محالة (بأغلبية ناقشت فيها وزير الداخلية فقال إنها حسبت بالنيات لا الأصوات) وأن عليه سد الثغرات الفاضحة فى المشروع المطروح.

وجاء رد المهندس عثمان فى صفحة 480 من كتابه عن تجربته بأننى السبب فى عدم مشاركته فى وزارة نوفمبر التالية للانتخابات.. وهو شرف لا أدعيه إزاء صهر السيد الرئيس.


وفى 4/8/1976 أصابتنى نيران صديقة فى مذكرة للدكتور إبراهيم حلمى الذى كان يعمل مستشارا لرئيس مجلس الوزراء تضمنت اتهاما لأجهزة الدولة بمخالفة أهداف السياسة العامة كما يعلنها رئيس الجمهورية مثلا أو رئيس الوزراء، بما فيهم جهاز التخطيط «الذى يبدو أنه يعمل بأسلوب مختلف عن الأهداف العليا».

وأشكر له تلك الفرصة التى أتاحت لى تفنيد التوجيهات المزعومة فى 14 صفحة، ودامت صداقتنا إلى أن اختاره الله إلى جواره، لأن الاختلاف لا يفسد للود قضية.

وأيدنى رئيس مجلس الوزراء فيما أوضحته. بل إنه عند إعادة تشكيل الوزارة أمضيت معه أمسية نتشاور حول التخطيط وتشكيل المجموعة الاقتصادية.


وعندما أعيد تشكيل الوزارة تصديت لوصفة الصندوق. ولما استفحل الخلاف مع رئيس المجموعة الاقتصادية، احتكم رئيس مجلس الوزراء إلى رئيس الجمهورية. وفى لقائنا معه فى استراحة القناطر (الأهرام 23/11/1976) عرض رئيس المجموعة الموقف مشيرا إلى تبقّى عجز مقداره 300 مليون جنيه يحتاج لإجراءات تتسبب فى رفع الأسعار، فكان رده: «وماله.. صارحوا الشعب».


وانتقل للحديث عن الحقد، فأشرت إلى أن الحقد ليس ما يشكوه الأغنياء، بل ما يتضرر منه الناس، من الوزير إلى الغفير، نتيجة وجود فئات تعيش بأنماط غير مقبولة. ولكنه أشاح بوجهه غاضبا، فتدخل وزير الاقتصاد بحديث عن قانون الاستثمار لتغيير الموضوع. وبعدها وجهت دراسة للمجموعة الاقتصادية فى 12/12/1976 أوضحت فيها أن قرارات الأسعار بما فيها سعر الصرف، ستنعكس سلبا على الإنتاج المحلى. فالمواد الضرورية لا يمكن التحلى عنها لانخفاض مرونة الطلب عليها، وبالتالى تقتطع من ميزانية الأسرة مبالغ كانت توجه لمنتجات أخرى، الأمر الذى يؤدى إلى انكماش فى الإنتاج وفرص العمل خاصة فى ظل ظاهرة تكدس العمالة الزائدة.

ثم تقدمت بمقترحات بديلة فى 14/12 لم تقبل. ونوقش الأمر فى مجلس الوزراء، فحذر المرحوم فؤاد محيى الدين من وقع الأمر على الجماهير. وقيل إنه تم الاتصال برؤساء المنبرين الآخرين وتحصيل موافقتهما دون الإفصاح عن مضمون القرارات حرصا على تجنب حدوث تلاعب فى الأسواق.

وفى 17/1/1977 عرض وزير المالية موازنة الدولة فى مجلس الشعب، وتلوته بإلقاء كلمة التخطيط. فإذا بالنواب المحترمين يلاحقون الوزراء طلبا لوساطات لأفراد يعتبرونها أنفع لهم من مصير الدولة. وهنأنى الخبير الألمانى إيرهارد ــ وكان مشاهدا للجلسة ــ على كلمتى.. ولعله كان يلمح إلى انصراف النواب عنها.
وكما أشار الصحفى العجوز تحسّب وزير التجارة والتموين العواقب، فاصطنع مهمة غيّبته فى الخارج، فطلب منى رئيس مجلس الوزراء ورئيس المجموعة الاقتصادية توقيع صيغة اقترحاها للقرارات باعتبارى وزيرا للتموين بالنيابة فى غيبة الوزير الأصلى، فلم يكن هناك مجال للتهرب. وفى يوم 18 اتصل بى د.

وجيه شندى وكيل وزارة الاقتصاد لاستقبال وفد الصندوق الدولى، فطلبت منه التأكد من إمكانية ذلك، لأنه كان محظورا عليهم لقائى، فأخبرنى أن وزيره كلفه بذلك. وفى المقابلة أوضحت أن وصفة الصندوق تخالف ألف باء الحسابات الاقتصادية. كما طلب خالد إكرام رئيس بعثة البنك لقاء مع البعثة شرحت فيه وجهة نظرى التى أيدها لانز تيلور الأستاذ فى MIT. ولكن هذا لم يكن ليغير فكر الصندوق أو البنك.


وعندما اجتمع مجلس الوزراء فى 26/1/1977 لمناقشة الوضع، طلب منى رئيس المجلس أن أذهب مع وزير المالية والسيد فؤاد محيى الدين، لمواجهة الاضطراب فى اللجنة الاقتصادية لمجلس الشعب برئاسة د. أحمد أبوإسماعيل. وهرول خلفنا الشيخ متولى الشعراوى يلقننا دعاء يكفل الإصغاء إلينا.

وعند وصولنا كان السيد مصطفى مراد من منبر اليمين يصول ويجول، فطلبت تقسيم المناقشة إلى قسمين: نبدأ بالأهداف (وهى ما تبنيته) ثم ننظر فى الوسائل (وهى ما عارضته). ودافعت عن الأهداف بما راعيته فى الخطة من أن الإيرادات الجارية تغطى النفقات الجارية فى السنة الحالية، وهو ما بينته بالرجوع إلى أرقام مذكرة وزير المالية عن الموازنة العامة. ثم تتدرج الإيرادات لتغطى المكون المحلى للاستثمار فى 1980، لننتقل بعد ذلك لتدبير مدخرات تكفى المكونين المحلى والأجنبى. فأكد السيدان خالد محيى الدين (متعه الله بالصحة) من منبر اليسار وحلمى مراد تأييدهما لكل ما ذكرته.

فقلت أمامكم وزير المالية ناقشوا معه وسائل تحقيق تلك الأهداف. وبعدها قال لى المهندس إسماعيل بدوى وكيل التخطيط إن النواب زايدوا اعتقادا أن الاجتماع المفاجئ لمجلس الوزراء غرضه استقالة الوزارة. غير أن المجلس انتهى باستقالة الوزيرين: عائشة راتب التى ظلت حتى آخر لحظة تدافع عن حقوق العمال، وجمال العطيفى الذى عارض مغادرتى الجلسة لاتفاقنا فى الرأى؛ ولو أننى بقيت لكنت صاحبتهما.


كانت المهمة التى أخذتها على عاتقى هى إنقاذ التنمية ولم أكن بالذى يتهرب من موقف، بل دافعت عن قرار شاركت فيه ضمنيا رغم إعلانى اعتراضى عليه علميا ومعنويا، فهذا هو لب سيادة رأى الأغلبية.

وعندما تقرر سفر رئيس المجموعة إلى واشنطن لاستكمال برنامج الصندوق، قدمت فى 27/2/1977 مذكرة بآثاره السلبية. وعندما استفسر منى السيد ممدوح سالم عن مغزاها، أوضحت أن القصد هو الضغط على الحكومة لتتخلى عن تخصيص نفقات للدفاع باعتباره البند الوحيد القابل للانكماش. وعقبت قائلا: «إذا كان المراد هو الصلح مع إسرائيل فهناك سبل أخرى أشرف من ذلك لتحقيقه».

وكان تعليق الرجل على ملاحظاتى على تصرف جنتر رئيس قسم الشرق الأوسط بالصندوق (الذى كان يعاونه د. عبد الشكور شعلان) قوله: «إننى أدرك أنه يريد هدم ثورة يوليو». وظللت أمسك بورقة إعداد الخطة للعرض فى اجتماع اللجنة الاستشارية لنادى باريس فى منتصف مايو 1977، إلى أن جاء ممثل البنك الدولى بنجنك وهو يهودى تركى، فاقترح على أن أتحدث عن الاشتراكية بالصيغة السويدية، فقلت له «أعطنى دخل السويد أعطيك اشتراكيتها».

وهنا تقرر أن أذهب ليأتى من يفتعل معدلا مرتفعا للنمو يعرض على النادى. وصح ما كنت ذكرته لرئيس المجموعة من أننا لن نجنى منه شيئا. فترك منصبه فى يوليو.


اللهم قد بلغت.. اللهم فاشهد

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات