ثورة يناير تدخل عامها الخامس.. إطلالة على ثورة 25 يناير فى عيدها الرابع - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 2:17 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ثورة يناير تدخل عامها الخامس.. إطلالة على ثورة 25 يناير فى عيدها الرابع

نشر فى : الإثنين 26 يناير 2015 - 8:05 ص | آخر تحديث : الإثنين 26 يناير 2015 - 8:05 ص

أواصل هنا ما توقفت عنده فى مقالى عن ثورات مصر الثلاث، والذى حاولت فيه استخلاص مؤشرات من تجارب اكتملت ولكنها أفرزت قوى تدفع إلى قيام ثورة تالية، تساعدنا فى بحثنا عن إجابة على سؤال تصورنا عقب أسبوعين من انطلاقها أنه لم يعد واردا: هل ستنجح ثورة 25 يناير فتغلق أبواب التكرار.. ومتى.

وكيف؟ وقصدت من ذلك أن نتجنب بذلك التمادى فى الانشغال بتفسير أحداث يومية لثورة نعيشها. وألخص ما توصلت إليه من العرض السابق فى نقاط ثلاث أساسية لا أدعى أنها شاملة، اثنتان داخليتان: دور الشباب والتنظيم المجتمعى؛ والثالثة خارجية هى التغيرات المتعاقبة فى النظام العالمى.

وأبدأ بالأخيرة لأن لها نصيبا وافرا فيما نعانيه، ولأن تطوراتها المتعاقبة تزيدها تعقيدا وتشدد من وقعها على أوضاعنا. ولنبدأ بتقسيم المدى الزمنى الذى يعنينا إلى ثلاث مراحل تتوافق مع تلك التطورات ومع ثوراتنا الثلاث: الأولى هى النصف الأول من القرن العشرين، والثانية هى نصفه الثانى باستثناء عقده الأخير الذى شهد بدايات المرحلة التى نعيشها والتى لن تتبلور معالمها قبل عقد أو عقدين.

أهم ما يعنينا على المستوى العالمى كعضو فى العالم الثالث هو متلازمة الرأسمالية والكولونيالية. تتلخص معالم المرحلة الأولى فى: انتقال الرأسمالية الصناعية إلى أنشطة تعتمد على كبر حجم المنشآت الإنتاجية وتعدد مراحلها وحاجتها إلى أسواق أكبر ومستويات أعلى للدخل، تسمح بربحية المنتجات الوسيطة نصف المصنعة والسلع الرأسمالية المعقدة والمتزايدة الاحتياج للطاقة المحركة؛ تزايد الصراع حول الدول التى استعمرتها وأجبرتها على أن تزودها بالخامات النباتية والمعدنية؛ خلافات حادة حول دور الدولة فى إدارة شئون الاقتصاد والهيمنة على التبادل التجارى الدولى بين الرأسمالية التقليدية والنظم الفاشية، وبينها وبين النظم الاشتراكية فى سلب فائض القيمة للطبقات العاملة داخلها وفى المستعمرات التى أقحمت فى حروب عالمية ليضاف لمعاناتها تدمير أراضيها وإزهاق أرواح أبنائها.

أخلى النموذج البريطانى الذى ساد المرحلة الأولى الساحة لنموذج أمريكى يتفق مع تفوقها الاقتصادى وموقعها الجغرافى، ويعتمد التبعية الاقتصادية بديلا للاستعمار المباشر الذى تخلت عنه الدول الاستعمارية مفضلة إقامة تكامل اقتصادى تلحق من خلاله بالتطور الصناعى والتكنولوجى، تاركين المستعمرات المستقلة تبنى دولا هشة البنيان لحداثة عهدها بالحكم الذاتى وندرة الرواد الصناعيين ومحدودية مواردها الاستثمارية. فأرست أمريكا قواعد «رأسمالية نقودية» فى ظل نظام نقدى دولى مرتبط بالدولار (بريتون وودز)، وهيمنت على الأسواق العالمية وبخاصة المالية، والمؤسسات الاقتصادية العالمية (البنك والصندوق واتفاقيات بازل) وآليات تبادل تجارى دولى غير متكافئ (الجات). ولكن سرعان ما تعرض النظام للتداعى خلال نصف الستينيات الثانى، وانطلقت موجة ركود تضخمى، أوقعت الدول النامية فى مأزق مديونية، أوقفت عجل تنميتها على مدى الثمانينيات، وتهاوت المنظومة الاشتراكية.

وهكذا بدأت المرحلة الثالثة بتداعى الرأسمالية المادية بشقيها العينى والنقودى، مع تصاعد وتيرة الاقتصاد المعرفى المعتمد على إبداع الذهن البشرى، وعلى التطور المتسارع فى الثورة التكنولوجية ومجتمع المعلومات والاتصالات، وأزاحت الخدمات المتطورة المصنوعات قديمها وحديثها عن موقع الصدارة، فكان لابد من تغيير آليات التبادل الدولى. فانضمت منظمة التجارة العالمية إلى مجموعة المؤسسات الدولية وتصدرتها، واشتد ساعد المؤسسات الاقتصادية التى تتحكم فيها الولايات، واستخدمت فزاعة الإصلاح الاقتصادى القائم على ما يسمى «توافق واشنطن» فى تدعيم توجهات سبق لى تلخيصها خلال النصف الثانى من الثمانينيات فى مقولتين: «العالم الثالث من الاستغلال إلى الاستغناء» (وفى مقدمته الوطن العربي)؛ وأن «من يملك يستعبد من لا يملك» (لب الرأسمالية المادية) بينما «من يعرف يستبعد من لا يعرف» (لب الرأسمالية التكنولوجية أو ما أسميته «التكنولية»)، فهو لا يحتاج إليه كما كان الحال فى الماضى، ولا يرى جدوى لإهدار موارد للأخذ بيده.

•••

فى المقال السابق رأينا أن الشباب الذى أشعل نيران ثورة 1919 كان قد حصل على قدر من التعليم نبهه إلى أنه لا مكان له فى ظل استعمار يحرص على تسخير الشعب فى تحويل موارده الطبيعية إلى ما يناسبه، وأن الإقطاع المتربع على قمة الهرم الاجتماعى يقاوم ذلك السلوك الاستعمارى، ولكن لأنه لا يرى ضيرا فى أن يحافظ على الأوضاع الداخلية إذا ما سمح له المستعمر بنصيب أكبر من الغنيمة. فبدت الثورة شاملة لكل فئات الشعب، ولكن سرعان ما شعر الشباب بالخطأ عندما وقفت الحكومات التى تأتمر بأوامر الإقطاع فى وجهه فلم تتردد فى قمع انتفاضاته المتكررة، وكان لابد من العودة إلى نقطة الصفر فى انتظار ثورة مكمّلة. وعندما فجّر شباب الجيش ثورة 1952 بادروا إلى سد الثغرة بتعديل الهرم المجتمعى، وإعادة سلطة القرار إلى الفئات صاحبة المصلحة، وعملوا على سد منافذ التراجع عن طريق دعم التماسك الاجتماعى من خلال تذويب الفوارق بين الطبقات، وتنقية المنظومة الثقافية مما تكلس فيها من شوائب عهود الاستعباد. ولكن التغيرات التى توالت فى النظام الدولى دفعت الاستعمار الجديد للتحالف مع قوى رجعية داخلية لإيقاف مخاطر المنهج الثورى المصرى إذا انتشر بين دول تؤمن بمثيله وتترقب فرصة تتمكن فيها من تطبيق ما يناسبها منه.

ماذا عن ثورة 25 يناير؟ لقد نُسبت منذ البداية إلى شباب يتوافق حظه من التعليم مع صيغة المرحلة التى يواصل العالم بلورة معالمها التى لم تستقر، مما يزيد غموضها فى أذهان باقى أفراد المجتمع المصرى، بمن فيهم شباب آخرون (هم الأكثرية) بل والفئات التى تتحين الفرص للعودة إلى ما أعطاها مكانة خلال الانتقال من المرحلة الثانية إلى الوضع الغامض السائد، وتجد سندا، مباشرا أو خفيا، من القوى المهيمنة على النظام الدولى. هناك أيضا فئات توسمت خيرا يصيبها لو تحققت شعارات الثورة، وكانت يائسة من تحقيقها، ولا تملك قدرة على تحديد كيفية بلوغها، لا ذاتيا ولا فى ثنايا أحاديث مرسلة من «نخبة» ما زالت تردد أفكارا سادت وسياسات طبقت وحظيت بقدر من النجاح فى المرحلتين السابقتين، ناهيك عن تلك التى أرادت إرجاع عقارب الساعة إلى ما قبل ثورة 1919. وكانت الطامة الكبرى فى التفكك الاجتماعى والانحطاط الثقافى الذى أحدثته السلطة التى أفرزتها السبعينيات، لأنها لا تملك ثقافة أعيان المرحلة الأولى ولا أخلاقيات من شاركوا فى إعادة بناء المجتمع فى الثانية، وبالتالى فقدت غالبية الشباب القدوة الحسنة ولم تعد قادرة على تصور كيفية التخلص من ثقافة وسلوكيات تعافها.

والقضية الجوهرية هى أن التكنولية التى تواصل مسيرتها حاليا تمر بمرحلة فك وتركيب أسس جديدة لكل من الفرد والدولة تمليها العولمة التى تتفاقم تداعياتها بسببها. فالفرد أصبح أقرب إلى خلية متشابكة منفردة عليها أن تؤدى مهام الحياة العملية التى كانت هى الشاغل الأساسى وربما الوحيد فى الماضى، وتنشغل فى نفس الوقت بروابط مضطربة مع كيانات أخرى محلية وإقليمية ودولية. وينذر هذا بتنامى التفكك الأسرى ومن ثم تبعثر المجتمعات المحلية، وتلاشى الانتماء الوطنى، ولا تجد لنفسها مكانا آمنا خارجها. وتستغل القوى المتحكمة فى النظام العالمى هذه التناقضات لإكمال عمليات الاستغناء والاستبعاد التى أشرت إليهما.

•••

لابد إذن من خلق أرضية صلبة تقنع أفراد المجتمع بخلق مساحات من التقارب تضيّق شُقة الاختلاف وتعطى فرصة لالتقاط أنفاس تستغل فى مناقشات رصينة وجادة تساعد على بلورة إستراتيجية قومية تقود المجتمع إلى التكاتف لتنفيذها. والسبيل إلى ذلك طرح فاعليات تجذب قدرا من القبول والإقبال لدى مختلف الفئات فتمهد لاستعادة التماسك الاجتماعى المفقود تدريجيا. وقد لاحظنا ذلك فى مناسبات توالت مؤخرا، ويجب العمل على تواليها بإيقاع يتيح إدراك جدواها دون تباطؤ يضعفها أو تسرع يرهق المواطنين.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات