بحثًا عن دور إقليمى - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بحثًا عن دور إقليمى

نشر فى : الأربعاء 26 مايو 2010 - 10:12 ص | آخر تحديث : الأربعاء 26 مايو 2010 - 10:12 ص

 طالعتنا جريدة الأهرام يوم السبت 22 مايو الجارى بمقال عنوانه «فى دراسة أكاديمية: حكم مبارك الأكثر عقلانية وواقعية». وأثار هذا العنوان فضولى لأمرين: الأول أن الأمر يتعلق بدراسة وصفت بأنها أكاديمية فهى تمثل استثناء صارخا لما تمتلئ بها وسائل الإعلام من مشادات بين الرأى والرأى المعاكس، التى تتم بوحى الخاطر فتأتى غاليا بعيدة عن «العقلانية»، التى تدفع إلى إعمال الفكر وصولا إلى ما يفيد.

والثانى أن النصف الثانى من العنوان أصابنى بما يشبه الصدمة لأننى كنت أحسب نفسى أعيش عالما من الفانتازيا فيه من المتناقضات ما لا يحتمل إلا الضحك أو البكاء، والضحك فيه هو ضحك كالبكاء.

ولا أدعى أننى اطلعت على أصل الدراسة، ولذا فإن تعقيبى ينحصر فى الخلاصة التى عرضها المقال المنشور، وهى «أن مصر لم تكف عن الاضطلاع بدور إقليمى مؤثر وقائدة لأمور المنطقة منذ الخمسينيات من القرن الماضى وحتى الآن»، وأن هناك تراجعا فى صورة مصر وليس فى فاعلية الدور المصرى فى المنطقة وذلك نتيجة تعارض متطلبات هذا الدور الإقليمى القائد بطابعه العاطفى الأيديولوجى مع المصالح الوطنية والأمن القومى المصرى خاصة‏.‏

والعبارة الأخيرة تنطوى على ثلاث مقولات يجب أن تناقش بجدية طالما أن الأمر يتعلق بدراسة أكاديمية، أعدها باحثان لهما مكانتهما بين المشتغلين بالدراسات السياسية، ونوقشت فى مؤسسة متخصصة هى «المجلس المصرى للشئون الخارجية».

كما أنها تستند إلى قاعدة لا خلاف عليها، وهى الاحتكام إلى حساب التكلفة والعائد عند تقييم فاعلية الدور الإقليمى وانعكاسه على مصالح الدولة وأمنها القومى. واستنكرت الاقتصار فى تقييم الدور من منظور الدور ذاته، والجزم بتراجعه دون إجراء موازنة بين تكلفته وعائده فى إطار مصلحى يعظم المنافع، ويحقق مصالح الدولة المصرية ويحافظ على أمنها‏.‏

ونسبت الدراسة إلى رؤية عبدالناصر أنها اتسمت بطابع أيديولوجى يعلى من المكانة‏،‏ وهو ما يعنى أمرين: أن الرؤية اتخذت قالبا عقائديا جامدا من أجل تحقيق مكانة عالية بغض النظر عن المصلحة الوطنية، وكأن المكانة تتعارض معها.

ويبدو أن الدراسة فضلت على ذلك ما سمته التوجه البرجماتى للسادات بحكم أنه يعلى من مصالح مصر الوطنية فوق أى اعتبارات أخرى‏.‏ ويتركنا هذا حيارى أمام مفهوم «المصلحة الوطنية» وما إذا كانت معيارا موضوعيا يستند إليه فى استخلاص مواقف بعينها إزاء كل قضية تعرض لنا، أم أنها أمر يعاد تشكيله ليتوافق مع موقف نريد اتخاذه من منطلق ذاتى يستحق وصفه بالبراجماتية. ولنا أن نستخلص ما لم يرد تفصيلا فى الدراسة، وهو أن الدور المتراجع (أو الذى يبدو متراجعا) تتطلبه «العقلانية والواقعية»، التى تنسب بطبيعة الحال إلى خليفة عبدالناصر والسادات.

الغريب أن يجرى تناول الأمر على هذا النحو فى عصر انتقل من المفهوم الضيق للدولة إلى النطاق الأوسع للتكتلات الإقليمية عندما راجت فكرة أن العالم لا مكان فيه إلا للكيانات الكبيرة، والذى انتقل بعد ذلك إلى الرحاب الفضفاض للقرية الكبيرة بعد أن طالت أيادى العولمة كل جوانب الحياة. والأغرب أن يعالج الأمر من زاوية المصالح الوطنية كما لو كانت منفصلة عن الدور الإقليمى (ويبدو أن المقصود به العربى، وامتد مؤخرا للأفريقى) وأن علينا أن نقصرها على الإطار الداخلى، ثم نعالج ما عدا ذلك بالرجوع إليه.

وأعود بالذاكرة إلى 1936 حينما انتهت مرحلة نضال مصرى ضد الاستعمار (وهو يمثل عملا خارجيا لدول بلورت مصالحها الوطنية فى استعمار دول أخرى) بتوقيع معاهدة «الشرف والاستقلال»، ووورى الملك فؤاد الثرى ليخلفه شاب وديع دون سن الرشد تلقفته أيدى الزبانية لتقدمه إلى الشعب باعتباره «الملك الصالح» المرشح لدور إقليمى أوسع نطاقا كخليفة للمسلمين بعد أن توارت الخلافة من تركيا، فأطلق لحيته.

وكنا نردد هتافا «يعيش فاروق ملك مصر والسودان، ودارفور وكردفان، والحبشة لو كان فى الإمكان». وكان من أطيب المناسبات «المحمل» الذى يطوف بكسوة الكعبة الشريفة كإهداء من الشعب المصرى إلى أهل الحجاز، ليسافر الحجيج بعد ذلك على أنغام أغنية ليلى مراد. وحينما انطلقت الإذاعة المصرية فى 1934 خملت إلى أسماع العرب حيثما كانوا ثقافة رصينة وألحانا جميلة، عززت من موقف البعثات التعليمية والطبية المصرية، التى شكلت أدوات تسهم فى التنمية البشرية لأشقاء فى العروبة والإسلام.

أما فى المشرق فقد كانت المآتم تنصب للتمزق الذى أحدثته اتفاقية سايكس بيكو فى دول الشام، لترتفع رايات وحدته وتتعدد الثورات فيه أملا فى لم الشمل. وفى أواخر أيام الحرب العالمية الثانية، واقتداء بإرهاصات منظمة الأمم المتحدة، انطلقت الدعوة إلى إقامة جامعة الدول العربية، التى ضمت الدول السبع المستقلة، أحدها وهو الأردن استكمل استقلاله فيما بعد، وانتقل من خلالها اليمن السعيد إلى العصر الحديث.

كانت مصر حديثة العهد بالاستقلال تتحسس موقعا مناسبا لها على خريطة الوطن العربى، مستندة إلى قدر غير يسير من الحداثة تراكمت سوابقه منذ أيام محمد على الذى أراد بناء دولة كبرى كانت بحكم الجغرافيا عربية، رغم أنه لم يكن عربيا بمثل ما كان ابنه إبراهيم. وتوالى انضمام الدول العربية بحصولها على استقلالها. فبعد قيام ثورة يوليو انضمت ليبيا ثم السودان وتبعها فى 1958 تونس والمغرب، وتبعهما فى أوائل الستينيات الكويت والجزائر، ثم اليمن الديمقراطية فى أواخر 1967 لتلعب دورا مهما أثناء حرب أكتوبر.

ولقد تحدد دور مصر إزاء كل من هذه الأطراف وفق تقدير واعٍ لمصالح مصر الوطنية، بما فى ذلك دعم حركات التحرر وبناء كيان للدولة حديثة العهد للاستقلال. ووقفت مصر بجانب دول أفريقية تناضل من أجل استقلالها، فإذا بهذه الدول تحث مصر على الدخول فى وحدة أفريقية، أنشأت لها منظمة فى 1964 تجاهد حاليا لتصبح اتحادا أفريقيا. وتحدد الدور المصرى وفق قاعدة الدوائر الثلاث: العربية والإسلامية والأفريقية وامتد إلى العالم الثالث فى التضامن الأفروآسيوى ثم عدم الانحياز، من أجل دعم قضايا مصالحها الوطنية والأمنية.

إننى أدعو أولئك الذين يستخدمون مصطلح «أيديولوجيا» أن يتخلوا عن توظيفها على النحو الممجوج، الذى أشاعه دعاة الرأسمالية فى هجومهم على النظم الاشتراكية، متشبثين بذلك بأيديولوجية تتوالى الكوارث لتثبت عقمها. إن الانطلاق من رؤية واضحة ومحددة هو المفترض فى ذوى الفكر الرصين، ولا يعنى قط أن الأيديولوجيا تعنى الجمود.

وبهذا المعنى فإن السادات لم يكن براجماتيا بقدر ما كانت لديه أيديولوجية، وإلا لما انغمس فى شبابه بالعمل الثورى. غير أن أيديولوجيته كانت مضادة لما سبقها: فعلى الصعيد الداخلى كان يلوح بالمصالح الصغيرة لأولئك الذين قامت الثورة لتنهى إعلاء مصالحهم الخاصة على مصالح الغالبية الكادحة، وعلى الصعيد الخارجى تلاعب بالتجمع العربى تحت ستار اتحاد الجمهوريات العربية، الذى لم يصمد أياما معدودة، واخترع جامعة الشعوب الإسلامية فى مناجاة للإسلامويين ليستعين بهم فى ضرب دعاة الوحدة العربية.

وانتهى به الأمر بوضع الجميع فى السجن ووضع مصر فى قفص ينفتح أمام أمريكا وإسرائيل. وقضى مبارك الذى كان يقوم بدور الوسيط لحل خلافات عربية أثناء السبعينيات، عدة سنوات يسعى لإعادة قبول مصر ضمن التجمع العربى، الذى لم يعد بيتا، بل مقهى يلهو فيه رواده وقد يتشابكون، واعتبرت عودة مصر إليه رد اعتبار. أما منطق رد الفعل الذى يحاول الخروج من مأزق بعد الآخر، فلا يمثل عقلانية ولا واقعية. إن الدور الإقليمى هو انعكاس لصلابة الواقع الداخلى، وهو آخر ما يمكن أن يوصف به الوضع الحالى. ويوم تمتلك مصر رؤية تشرّف أبناءها فى الداخل والخارج ستجد أن الدورين الإقليمى والعالمى لا انفصال بينها.

من أجل هذا كانت الدعوة للتغيير، والعقلانية فى التفكير والتدبير.


محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات