من حقى - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من حقى

نشر فى : السبت 26 مايو 2012 - 8:30 ص | آخر تحديث : السبت 26 مايو 2012 - 8:30 ص

شاركت منذ أسابيع قليلة فى مسيرة مبتكرة، انطلقت فى محافظة الإسكندرية، وقد ارتدى جميع أفرادها كبارا وصغارا، تى شيرتات مطبوعا عليها شعار: «من حقى».  شعار مبهم، خالٍ من أى تفاصيل تدل على هوية المشاركين وهدفهم، رغم ذلك فقد كان موحيا ومحفزا إلى حد بعيد. تحركت المسيرة عصرا  من كورنيش منطقة ميامى، ووصلت بعد ساعتين تقريبا إلى حدائق المنتزه، حيث انتظرها حفل الختام.

 

●●●

 

ضمت المسيرة المئات، ورآها أيضا مئات، وتفاعلوا معها بطريقة أو بأخرى، كل شخص تصادف وجوده فى الشارع، عبر عما انطبع فى ذهنه وما التقطه دون تحفظ، وكل شخص يخالجه شىء ما، أسقطه على المسيرة وعلى من فيها. لم يكتف الناس بالفرجة والتفكير، بل خرجت انطباعاتهم تلك على هيئة عبارات وأفعال، وقد انقسموا ما بين غاضب ومتعاطف ومؤيد وساخر. الغاضبون لم يسألوا ولم ينتظروا إجابة، بل انطلقوا يوبخون عضوات وأعضاء المسيرة «من حقكم إيه هو كل حاجة كده، عايزين فلوس فلوس وخلاص؟»، امرأة متوسطة العمر ترتدى جلبابا استوقفت إحدى الطبيبات المشاركات، وبدأت تصرخ فى وجهها «كفاية بقى اصبروا شوية ده البلد فى النازل من تحت راسكم»، لم تستطع الطبيبة رغم محاولتها، أن توقف السيل المندفع من الكلمات، ولم تتمكن من أن تشرح الفكرة للمرأة التى قذفت بانفعالاتها وابتعدت سريعا، بعض الشباب والصبيان تصوروا ــ بفضل اللونين الأبيض والأحمر اللذين استعملهما من قام بتصميم التى شيرتات ــ أن المسيرة تؤيد الفريق الكروى لنادى الزمالك، فانطلقوا يرددون الهتافات المشجعة للنادى الأهلى، نكاية فيمن ظنوه جمهور المنافسين، كان من بينهم من سخر من الزى الموحد للسائرين، وهناك كثيرون رفعوا أصواتهم بعبارات تستنكر جرأة واستفزاز مشجعى الزمالك، وآخرون تبادلوا  بعض القفشات والنكات. فريق آخر من الناس تصور أن المسيرة هى مجرد نوع من الدعاية لأحد مرشحى رئاسة الجمهورية، ولما كان أشهرهم فى تلك الفترة هو أبوإسماعيل، فقد أخذوا يشيرون إلينا باعتبارنا أولاد أبوإسماعيل. البعض هتف «من حقى» مستحسنا الشعار دون أن يعرف ما المقصود من ورائه، ودون أن يجد داعيا لأن يكلف نفسه مشقة السؤال، وهناك من طلب تى شيرت مطبوعا ليحتفظ به، كما أبطأت عدة عربات من سرعتها وسارت بمحازاة الكورنيش فى محاولة لفهم ما يجرى.

 

لم يستطع أى من المارة أن يتكهن ــ دون مساعدة ــ بطبيعة المسيرة، التى حوت فى حقيقة الأمر؛ أطباء وطبيبات ومرضى وطواقم تمريض، وموظفين وعمالا.. كل من له علاقة بمنظومة الصحة النفسية كان هناك، والكل ارتدى تلك التى شيرتات مبهمة الشعار. هدف التجمع كان إيصال رسالة بسيطة، مفادها أن الاضطراب النفسى لا يمنع أصحابه من ممارسة الحياة، ولا من الوجود فى المجتمع والتفاعل مع الآخرين، الهدف كان كسر حاجز الخوف من المرضى، ورسم صورة جديدة، أكثر واقعية وإنسانية، تحل محل تلك التى وضعها الإعلام فى وعى الناس وكرسها بإصرار ودأب، وجعل المرضى والأطباء فيها أشخاصا مشوهين، باعثين على الشفقة أو جالبين للذعر.

 

●●●

 

بقدر ما استطعت المتابعة، يمكننى القول بأنه بعد شرح فكرة المسيرة، لم يكن هناك من المارة تقريبا من استنكر وجود المرضى معه فى الشارع جنبا إلى جنب، كما لم يُبد أحدهم ذاك الشعور بالخوف أو النفور الذى اعتدناه كأطباء من الناس، ودرجنا بمرور الوقت على التعامل معه. جاءت أغلب الاستجابات مُتَفَهِّمَة وأحيانا مُدَعِّمَة، كان بعض الناس يفكر فى الأمر مليا، ويدخل فى نقاش ويطرح أسئلة عديدة ويتلهف على الإجابات، ومنهم من كان  يتطوع متحمسا، ليقطع معنا جزءا من المسافة المقررة سيرا على الأقدام.

 

فيما يتعلق بالطب النفسى، لا يزال الفارق بيننا وبين غالبية البلدان المتقدمة شاسعا، سواء فى ثقافة المجتمع، أو فى الخدمات التى تقدمها الدولة؛ لدينا عدد ضئيل من الأطباء، ولديهم نسب عالمية موحدة يتم الالتزام بها، لدينا ميزانية ضعيفة، ولديهم ما يساوى أربعة أضعافها، لدينا مرضى يتداوون عن طريق الدجالين بسبب الجهل، ولديهم وعى كبير بفكرة المرض وبأهمية استشارة الطبيب المتخصص، لدينا عائلات تعتبر أفرادها المصابين بالاضطراب عارا عليها وتحاول إخفاءهم، ولديهم استيعاب للآخر مهما كان مريضا أو غير سوٍ، وفى إيطاليا على سبيل المثال، تمكن الأطباء النفسيون من نشر العيادات والمراكز التى تتعامل مع الاضطرابات النفسية فى كل منطقة وحيّ، حتى لم يعد للمستشفيات دور ذو أهمية، فأغلقوها واستبدلوا بها العلاج وسط المجتمع، حيث لا يتم عزل المريض، أو وصمه ونبذه. شارك بعض هؤلاء الأطباء الطلاينة فى مسيرة الاسكندرية، وانضموا إلى حفل الغذاء الجماعى داخل حدائق المنتزه.

 

●●●

 

بعيدا عن الهدف من وراء التجمع والخروج إلى الشوارع، كانت فكرة الشعار الغامض ناجحة، فقد جعلت كثيرا من الناس يقتربون، ويستكشفون ويتساءلون عن مغزاه، أو يترجمونه كل ما يشغل باله. فرصة قد لا تتكرر كثيرا للتخيل والتفكير. على كل حال، كانت المسيرة بمثابة اختبار غير مقصود لردود أفعال الناس واستجاباتهم التلقائية، والطريف فى التجربة إثباتها أن شعار «من حقى» لم يعد مدعاة للسخرية ولا الاستهجان، كما كان من قبل.. الآن يدرك الناس جميعا أصحاء ومرضى أن لهم حقوقا مسلوبة، وأنه يمكن استردادها، قد يختلفون حول الطرق والوسائل والتوقيت المناسب، لكنى أثق فى أنهم لن يتركوها مرة أخرى.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات