المتاهة - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 8:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المتاهة

نشر فى : الجمعة 26 أغسطس 2016 - 9:10 م | آخر تحديث : الجمعة 26 أغسطس 2016 - 9:10 م
قرأت هذا الأسبوع رواية أعادت لى الثقة فى الكتاب ــ الروائيين ــ الجدد. رواية تصحبك من أول جملتين وأول صفحتين إلى عالم مختلف عما تعيشه؛ عالم سريالى خيالى يشبه روايات الأطفال، وفى آخر الرواية تشعر بأنك كنت فى قلب الواقع بصراعاته وآلامه وحيرته وضيقه. رواية تطرح وبقوة أوهام هذا العصر الذى نعيش فى واقعه وهواجسه وآماله وآلامه وأتعابه وسر استمراره. قصة من تأليف حنان جاد ومن اسمها يتضح أنها مصرية لكن الكتاب من إنتاج دائرة الإعلام والثقافة ــ الشارقة ــ الإمارات المتحدة. لا تزيد صفحات الرواية على المائة من القطع المتوسط تدخلك فى متاهة نفسية خيالية تخلط الواقع بالوهم.

تبدأ الرواية بقصة رجل يدعى أسعد، وبالطبع الاسم له دلالة واضحة فالأسعد هو الأكثر سعادة. هذا الأسعد كان مشروع فنان تشكيلى عالمى، إلا أنه بسبب ظروف البلد الاقتصادية والفقر المحيط والجهل الذى ينظر للفن التشكيلى إما بعيون الريبة وإما بالتكفير وإما بأنه فن معقد يحتاج إلى ثقافة معينة لفهمه، هذا فضلا عن أن هذه النوعية من الفنون تحتاج إلى هيئة رأسمالية تتبنى المواهب الواعدة، أو فنان ثرى أرستقراطى يستطيع أن ينفق على محاولاته الأولى حتى يصل إلى مرحلة القبول من النخبة الفاهمة لهذه النوعية من الفنون فى هذا المجتمع. ولما لم يكن أسعد يملك مثل هذه الأدوات فقد تخلى عن حلم حياته فى الرسم وعمل فى وظيفة حكومية رتيبة ومملة جدا بالنسبة له كفنان؛ وذلك لكى يضمن قوت يومه ورزق زوجته وأولاده. لقد عاش وكأنه لا يمتلك موهبة أساسا وحاول أن ينسى طموحه وآماله وأحلامه مما أدى إلى إنكاره لإنسانيته، حتى تقابل مع أحد الأثرياء الذين أطلق عليهم الكثير من الألقاب مثل الخديوى والبرنس والباشا.... إلخ.

كان هذا الثرى يدعى «الإمبراطور» ونشاطه يتركز فى جمع التحف والقطع الفنية النادرة والتجارة فيها وقد وصلت شهرته إلى الآفاق العالمية. عندما تعرف الإمبراطور على أسعد عرض عليه أن يتبنى موهبته وأن يهيئ له الجو المناسب تماما لاستعادتها وتنميتها مهما كلفه الأمر، ووعده أنه بهذا سوف يستطيع أن يحيى الفنان الراقد داخله فى غيبوبة بحجة ووهم الاستقرار الأسرى، وهذا سوف يعود بالشهرة له وبالخير الوفير والاستقرار لأسرته. لكن لتحقيق ذلك كان عليه أن يخضع لشرط دخوله إلى عالم العزلة ولكى يحقق هذا الشرط كان عليه أن يجتاز ممر الدخول إلى المتاهة بما فيها من أخطار، والتى يمكن أن يتوه فيها ولا يصل إلى الهدف المنشود. هنا يظهر جاره د.عرفان ويحاول فى حوار طويل مع أسعد إقناعه بالتنسيق والمواءمة بين عالمه الواقعى بعمله الرتيب الممل وبين اشتياقه وولعه للتعبير عن نفسه من خلال موهبة الرسم والألوان.

***

دخل أسعد إلى ممر المتاهة وكانت النتيجة أن ضاع فيها، فلم يصل إلى تحقيق حلمه بأن يكون فنانا تشكيليا مميزا ولا حتى اكتملت صورة واحدة عادية له؛ فتحول كل إنجازه أو إنتاجه فى الفن التشكيلى إلى لوحات أطلق عليها «أعمال ناقصة غير منجزة». وبسبب طول زمن اختفاء أسعد بدأ ابنه آدم يشعر بالقلق الشديد الذى أدى إلى انزعاج الابنة دينا والأم رسيل زوجة أسعد، وهنا يتدخل الإمبراطور ود.عرفان لمساعدة آدم فى البحث عن أبيه بل وبدءا يبذلان جهدا معا فى إقناعه ــ كما أقنعا أباه من قبل ــ بالدخول إلى العزلة عن طريق ممر المتاهة. فى النهاية وافق آدم ولكن بشرط أن يضعا له خطة متقنة رائعة مضمونة للوصول إلى أبيه، وزادا على ذلك بأنهما وهباه أدوات مساعدة تجنبه الأخطار التى سوف تقابله فى المتاهة التى دخل فيها الوالد ولم يعد منها بعد.

والمتاهة تتكون من ثلاث مناطق كل منطقة تحمل فى طياتها ودواخلها وطرقها أهوال الضياع، منطقة الوهم أو عالم الوهم الجميل ثم منطقة عالم الكبرياء وأخيرا منطقة عالم العزلة؛ حيث يعيش أسعد وبعض أصدقاء عرفان ورفاقه الذين عاشوا فى المتاهة وضاعوا فيها للأبد. يرسم الإمبراطور خطة جديدة متقنة للابن تتناسب مع عمره تبدأ بدخوله عالم المتاهة من خلال بوابة الوهم عبر مرآة تزين له الأوهام الجميلة، وهناك تحذير واضح وهو ينظر إلى المرآة ألا ينظر إلى شخص يشبهه أكثر من خمس ثوان لأنه إن فعل هذا سوف يفقد طريقه للخروج من منطقة الوهم أو الكبرياء داخل المتاهة. وبالطبع لن يتركه هكذا وحيدا أمام هذا التحدى لكنه وهبه وسيلة تساعده على «التركيز» كى لا يفقد البوصلة التى امتلكها والتى جعلته يجازف بالدخول فى المتاهة؛ إذ إن هذه البوصلة سوف تصل به فى النهاية إلى أبيه أسعد. بالطبع وحسب السياق لحقت الأخت ثم الأم بالابن على الرغم مما اتفق عليه بين آدم ود.عرفان على أن آدم هو المنوط بالبحث عن أبيه منفردا وقد وعده عرفان بذلك. تمر الأسرة كل بمفرده بمغامرات كبيرة خطرة فى جو من الصقيع الشديد الذى يلف المتاهة كلها. وأخيرا تصل الأسرة كلها إلى أسعد وكان الدرس العظيم الذى تعلموه أنهم لكى يخرجوا من المتاهة عليهم أن يتكيفوا معها ومع طرقها وطبقاتها ومراحلها المختلفة والمتعددة والمتنوعة بل وإدراك تعقيداتها الرهيبة، حتى وصل الأمر أنه للخروج منها عليهم أن يقبلوها كقدر لهم لا مفر منه ولا مهرب عنه بأى شكل من الأشكال.

***

عندما تقرأ الرواية تعيش المتاهة بكل تفاصيلها فهى تضم صراخا ونحيبا وبهجة وأفراحا بجميع طبقات الأصوات وبتفاصيل منتهى الروعة والجمال. تكتم أنفاسك حينا وتبتهج حينا آخر وفى وسط هذه الجلبة تكتشف أن المؤلفة تستدرجك إلى معالجة عميقة للنفس الإنسانية بهواجسها وخيالاتها وآمالها وأحلامها وإحباطاتها وضعفها ومراكز قوتها؛ بحثا للإنسان عن وجوده وسط أعاصير الوهم والطرق المتشابكة والمتاهة الأبدية. إن الرواية فى مجملها موقف وجودى للإنسان يردد صدى هاملت شكسبير «أكون أو لا أكون.. هذه هى القضية»، وموقف الفلاسفة الوجوديين مثل: «كير كيجارد» الذى يتحدث عن موقف وجودى للإنسان مقابل وجود الله وكيف يتعايشان معا دون إنكار الإنسان لله ودون قمع الله للإنسان، أما «جان بول سارتر» فموقفه الوجودى أن «الإنسان ليس حرا ألا يكون حرا» أى أن الإنسان ليس لديه الحرية أن يستعبد نفسه لأحد حتى لو كان الله، إنه الموقف الوجودى للإنسان فى المطلق المتدين منه وغير المتدين.

لذلك وبسبب هذا الموقف الوجودى جاءت النهاية للرواية بأحداث 28 يناير 2011 وكأن هذه الثورة قد انقذت الشباب المصرى من العزلة ومتاهتها وهكذا نسقط كقراء فجأة من عالم الخيال البديع والفلسفة العميقة ومتعة التشويق إلى واقع المتاهة التى غرق فيها ومازالوا شباب الربيع العربى، فهل السجن هو نهاية المتاهة؟ أو الطريق للخروج منها أو الهلاك فيها؟. اعتقد أن السجن هو مرحلة فى المتاهة لكن لابد أن يأتى وقت الخروج من المتاهة حيث يزهر الربيع المصرى ثانية بل ويأتى ثمره وورقه وأوكله وكذلك ظله.
إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات