عدم استئناس المستحيل يجعل الممكن مستأسدًا - إكرام لمعي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:10 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عدم استئناس المستحيل يجعل الممكن مستأسدًا

نشر فى : السبت 26 سبتمبر 2015 - 10:10 ص | آخر تحديث : السبت 26 سبتمبر 2015 - 10:10 ص

عنوان المقال مقولة فلسفية صارت مثلا وهى تنطلق من صراع الأفراد والشعوب لصنع وتحقيق مصيرهم، فالبلدان بعد الثورات أو فى المراحل الانتقالية تضع تقييما لما يمكن تحقيقه والذى يعد تحقيقه صعبا وأخيرا المستحيل تحقيقه وبالطبع تبدأ بالممكن وصولا للمستحيل مرورا بالصعب.

وإذا كان تقييمها خاطئا ووضعت المستحيل فى مكان الممكن أو العكس هنا يقع الارتباك ويصعب عليها الإنجاز بل تتحول نتيجة الإخفاق فى تقييم مشاكلها وقضاياها وترتيبها الخاطئ لأولياتها إلى دولة فقيرة متخلفة غير قادرة على الإبداع والحركة والتطور، وسأقدم هنا مثلين: الأول لإنسان فرد، والآخر لدولة.

أما الفرد فهو طه حسين الذى فقد بصره بسبب فقر وجهل أهله بالعلاج الصحيح لعينيه لكن طه حسين الطفل لم يعتبر أن قدره أن يعيش عاجزا فاشلا ينتظر عطف المبصرين عليه كمعظم المكفوفين؛ الذين يعرفهم اولئك الذين وقفوا أمام العمى فى عجز كامل كمستحيل يستحيل تجاوزه والانتصار عليه، ولم يحاولوا حتى استئناسه واستراحوا لقبول الأمر والتعامل معه كمصدر للرزق السهل بالشحاذة أو لأنشطة يمكن أن يقوم بها المكفوفون مثل قراءة القرآن أو القداس أو إذا كان الصوت جميلا فيغنى تواشيح أو تسابيح أو يلعب موسيقى، أما طه حسين فقد قرر أن يستأنس المستحيل وان يكون أفضل من كل ذى عينين. هو هنا ولتلاحظ ــ عزيزى القارئ ــ انه لم يقهر العمى أو الظلام كما وضعه كمال الملاخ عنوانا لكتاب عنه «قاهر الظلام» لكن استأنسه وتجاوزه فصار عميدا للأدب العربى والأدباء العرب، وعادة أسأل تلاميذى بعد استعراض كتب طه حسين من فيكم يعرف أن طه حسين لا يقرأ ولا يكتب؟ فتظهر معالم الدهشة عليهم أول وهلة ثم ينتبهون ويتذكرون انه أعمى ويضحكون فرغم علمهم المسبق بأنه كفيف لكنهم لم يتعاملوا معه اطلاقا على هذا الأساس لقد أنساهم طه حسين عجزه بتفوقه عليهم وعلى أقرانه وعلى أساتذتهم فعندما استأنس المستحيل امتطى الممكن فسبق كل المصريين فى عصره.

أما الدولة فهى بلدنا مصر وبعد ثورة يوليو حدد عبدالناصر ما يريد تحقيقه وكان بمثابة المستحيلات بناء جيش وطنى قوى وبناء ديمقراطية سليمة وبناء عدالة اجتماعية وذلك للقضاء على الفقر والجهل والمرض. ولقد حقق عبدالناصر العدالة الاجتماعية بالإصلاح الزراعى ومجانية التعليم فى محاولة للقضاء على الجهل وبنى السد العالى ومصانع عديدة لتحديث مصر. لكن الخطأ الذى وقع فيه عبدالناصر والذين أتوا بعده هو انهم لم يلحظوا أن هناك خطرا داهما على أى وكل انجاز وهذا الخطر يمكنه ان يدمر أى وكل شىء وهو «الفهم الخاطئ» للدين الذى يؤدى إلى التطرف، وقد كان له ضحايا كثر قبل الثورة وبعدها وتعرض عبدالناصر نفسه لمحاولة اغتيال إلا أنه رأى الحل أمنيا فقط. وكانت رؤيته أنه من السهل القضاء على التطرف واعتبر أن هذا ممكن وليس مستحيلا، وتبعه فى ذلك السادات ومبارك وهذا خطأ كبير فى التفكير المنهجى وفى ترتيب الأولويات؛ فبالنسبة لمنهج التفكير التطرف ينتسب للدين وبالتالى ليس من السهل إقناع أتباعه بتركه عن طريق السجن أو التأديب لأنه عقيدة داخلية روحانية ربانية؛ فهو يحتاج لتعليم دينى مقابل لما فى ذهنه يكون مقنعا وعصريا وليس من المؤسسة الدينية التابعة للدولة ومن علماء يثق فيهم الشباب ضحية التطرف وهذا ما لم يحدث.

***

أما من ناحية الأولويات فكان يجب أن يكون هذا الأمر على قمة أولويات الرؤساء كمستحيل عليهم أن يستأنسوه لأنهم مهما كانت إنجازاتهم عظيمة فإن التطرف سوف يدمرها تماما أو على الأقل يفرغها من مضمونها وهو ما حدث مع عبدالناصر؛ حيث اتهم بالعلمانية والشيوعية وأن هزيمته عام 1967 كانت بسبب ترك المصريين لله ولدينهم، وقد هزمنا من دولة دينية شعبها متمسك بدينه وبناء عليه عاد المصريون للعبادة وظهرت السيدة العذراء فى كنيسة الزيتون لتشد أزر المصريين جميعا، وفى عبور الجيش العظيم لقناة السويس فى حرب أكتوبر 1973 كانت الملائكة تعبر فوق رءوسهم وأمامهم لتحميهم والسحاب يكتب فى السماء «لا إله الا الله محمد رسول الله»، وكان السادات يتحدث دائما عن قدرته على كبح جماح القوى المتطرفة وأنهم تحت نظره دائما لدرجة أنه تحالف معهم بعد ثورة الخبز عام 1977 ليقضوا على الطلبة اليساريين فى الجامعة، وهكذا كان ينظر إليهم تحت بند الممكن الذى من السهل احتواؤه بالأمن أو بالحوار، لكن انتهى هذا التصور باغتياله على أيديهم.

أما مبارك فعلى الرغم من كل هذه الدروس فقد سار على نفس المنوال وقام بالتعاون معهم بشرط ألا يتطلعوا للحكم وقامت ثورة 25 يناير واكتشف مبارك والمجلس العسكرى أن التطرف الدينى اجتاح الأزهر والمدارس والجامعة فقد رفع تلاميذهم علم القاعدة عليهم، ليس هذا فقط بل اكتشفوا أن هذا العملاق أصبح طرفا فى معادلة الحكم بعد الثورة وبمباركة أمريكا وأوروبا طبقا لنظرية الفوضى الخلاقة والمرتبط بها مشروع الشرق الأوسط الكبير؛ الذى سيتشكل نتيجة هذه الفوضى ويضم مع الدول الحالية إيران وتركيا وإسرائيل وهم الذين سيقودون المنطقة لأن الدول العربية فشلت فى ذلك. وكانت الخطة ان تقدم مصر 720 كم مربع من سيناء لتصبح مع غزة دولة فلسطين لتحقيق حل الدولتين، وقد رفض مبارك هذا الحل وكان لابد من رحيله وتم الضغط الأمريكى على المجلس العسكرى ليتعاون مع الإخوان ليصلوا لحكم مصر لانهم سيتعاونون فى حل المشكلة الفلسطينية.

***

ووصل الإخوان للحكم وهكذا تحول الذى كان رؤساء مصر يضعونه تحت بند «الممكن» القضاء عليه بسهولة إلى بند «المستحيل» القضاء عليه وذلك لأنهم لم يدركوا من البداية خطورته وانهم عليهم ان يستأنسونه وهو فى طور النمو قبل ان يصبح وحشا مستأسدا، وهكذا انطلق الوحش متعدد الرءوس ليخرج رأسا من الموصل ويستولى على معدات جيش العراق وانضم اليه ضباط الجيش الحانقين على أمريكا التى سرحتهم ثم أخرج رأسه الأخرى من سوريا، واستولى على أرض ونفط فى البلدين وباع النفط بواسطة وسطاء إلى دول كثيرة، ثم ظهرت رأس ثالثة فى ليبيا وتمدد الوحش فى معظم البلدان العربية فى سيناء مصر وفى السعودية. ومع ظهوره بدأ استكمال الصورة باتفاقية النفط بين أمريكا وإيران لتكتمل الصورة وتصبح الدول الفاعلة فى المنطقة إسرائيل وتركيا وايران، والعقبة الوحيدة أمام استكمال المخطط هى مصر خصوصا بعد سقوط حكم الإخوان، ونحن اليوم فى موقف لا نحسد عليه فأمريكا لم تعترف بثورة 30 يونيو حتى اليوم ولا تتعامل مع السيسى وسوف تقيم مؤتمرا لمحاربة الإرهاب بأمريكا دعت له الإخوان من كل الدول العربية وسيفتتحه أوباما وهذا يعنى انه يراهن على الإخوان حتى الآن.

ومن المتوقع ان تتم صفقة بين أوباما وبوتين والستة الكبار بعد القضاء على داعش وما يماثلها من جماعات بواسطة روسيا ثم يتم حل القضية الفلسطينية بتبنى حل الدولتين المتفق عليه عالميا. لكن ما زال الأمر غامضا من نحو سيناء لكن هناك بعض الاقتراحات والبدائل يتم دراستها خصوصا أن الثمن كان 200 مليار دولار تحل جميع المشكلات بضربة واحدة. كل هذا جاء علينا لأننا لو كنا أدركنا وقيمنا «المستحيل» مستحيلا ولم نستهن به واستأنسناه منذ البدء لما تحول اليوم إلى وحش مفترس يصعب استئناسه أو اصطياده.

إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات