مخلوق جميل - تميم البرغوثى - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 6:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مخلوق جميل

نشر فى : الثلاثاء 26 أكتوبر 2010 - 10:25 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 26 أكتوبر 2010 - 10:25 ص
يتعرض العربى فى بلاد الروم والإفرنج لما يتعب قلبه من أقاويل مبنية على الإنسانوية، أى على الفكرة الفلسفية القائلة بوحدة الجوهر الإنسانى وقدرة العقل البشرى على فهم قوانين الطبيعة، وأن الأخلاق والقوانين ونظم الحكم يمكن استنباطها علميا من الطبيعة، فالناس كالنمل والنحل، يحدد سعيهم للطعام والشراب والتكاثر طرق تنظيمهم لأنفسهم، فينقسمون حكاما ومحكومين، ثم ينظمون العلاقة بين الطرفين.


والمنهجية التى يستطيع بها العقل الإنسانى استنباط هذه القوانين هى المنهجية التجريبية، فيجرب الناس النظم السياسية المختلفة ثم يفشلون وينجحون، فيبنون على ما نجح ويتركون ما فشل.

ويتبع هذه المقولة ــ التى تبدو للوهلة الأولى جذابة ــ، أن يكون النظام السياسى للولايات المتحدة الأمريكية مثلا هو النظام السياسى الأنجح، وبالتالى هو النظام السياسى الأكثر علمية، فمن كان من الناس عاقلا، يقول لك الإنسانوى الأمريكى، عليه بالضرورة أن يعجب بالنظام الأمريكى وأن يحاول تقليده ومن لم يشأ أن يفعل ذلك فهو بالضرورة غير عاقل، أى هو إنسان ناقصة إنسانيته، إلى هنا تكتمل الجملة ويبدأ الدم، والقتل والتعذيب والقنابل النووية، وقصف الأعراس والمآتم، ويمتد خيط السواد على أثر خطى المبشرين الأمريكيين، ومن قبلهم خطى المبشرين البريطانيين بإنسانوية تقتضى قتل الناس واحتلال بلدانهم.

 

أقول، إن الوثائق العسكرية الأمريكية التى تسربت عن غزو العراق تبين للمرة الألف معنى الإنسانوية والحداثة والليبرالية وغيرها مما جاءتنا به القوى الاستعمارية منذ مائتى عام، تكلموا عن الحرية واستعبدونا، تكلموا عن الحياة وقتلونا، تكلموا عن حقوق الأقليات بيننا فإذا هم يضطهدون أغلبياتنا. إن السبب فى هذا التناقض ليس كذبا من عندهم، بل هو خلل فى التعريف، فهم مؤمنون حقا بأن الناس سواسية لكننا لسنا أناسا عندهم، هم مؤمنون بأن الحرية حق لكل البشر، ولكن العربى والهندى والصينى والأفريقى ليس بشريا مثلهم، أو ليس بشريا بما يكفى ليكون مثلهم. لقد لاحظ صديق لى لماح وموهوب أن الحاكم الحقيقى لمعظم بلادنا هو رئيس الولايات المتحدة، وأن قراراته تؤثر فى حياتنا وموتنا ربما أكثر من قرارات رؤسائنا بل ومن قرارات رؤساء بلدياتنا وأحيائنا السكنية، ثم قال لى ذلك الصديق، نحن محكومون بالأمريكيين أفتدرى لماذا لا يسمح لنا بالتصويت فى الانتخابات الأمريكية رغم أن رئيسهم يحكمنا؟ لأننا قطط، لأنهم يعتبروننا قططا ضالة فى نيويورك أو واشنطن، لأننا لسنا بشرا فى نظرهم، فوالله لو كنا بشرا لما دخلوا بلادنا على غير إذن منا ولما قتلونا ثم اندهشوا ان حاول بعضنا يرد. هم يعتبرون بلادنا ونفطها وحدودها لهم، أما نحن فغير موجودين، أعنى غير موجودين سياسيا، لا وسيلة لنا لتقرير مصيرنا أو إسماع أصواتنا، حكامنا لا يسمعون لنا، إنما يسمعون لهم، لأنهم موظفون عندهم، وإن صحنا فى الشوارع فإن ذلك لا يغير قرارا بحرب أو سلم.

ولا يردن على أحد المعتذرين لهم بالقول إن الأمريكيين أنفسهم كشفوا عن هذه الوثائق، لقد كشفت إسرائيل من قبل عن بعض مذابحها، وهناك قول مشهور فى إسرائيل يلخص هذه الخطة هو القتل والنحيب، أو اقتل وانتحب، بمعنى أنهم يقتلون، ويحصلون على المنفعة المادية المترتبة على القتل، ثم ينتحبون ندما فيحصلون على المنفعة المعنوية المترتبة على النحيب، فيقال قوم حساسون يعرفون الحسن من القبيح والحلال من الحرام حتى يكاد يتعاطف معهم ضحاياهم. إن هذه الوثائق لم تسرب إلا والأمريكيون موقنون أنهم خارجون من العراق، وهم خارجون منه مجبرين تحت ضغط المقاومة العراقية وضغط أزمة اقتصادية لا تريد أن تنتهى، ورطهم فيها فشلهم فى حروبهم علينا.

وهم إذ يعدون العدة لخروجهم، يريدون أمرين، الأول: أن يمنعوا تمدد النفوذ الإيرانى فى العراق، والثانى، أن تظهر هذه الإدارة الأمريكية بمظهر النادم المتطهر من جرائر الإدارة التى سبقتها، والغرضان لا يصلحان عذرا ولا تطهرا من الجرائم التى ارتكبها الاحتلال الأمريكى فى العراق

 

أيها الناس، والله إن لنا بهم قبلا، وإن لنا عليهم لقوة وسلطانا فنحن أولى بدمائنا، فلا يصدقن أحد ما يقوله لكم من يدعوكم إلى الحرية ويهديكم السلاسل ويؤسس لكم وزارات الداخلية وأجهزة الشرطة ويبيعها آلات التعذيب بالكهرباء، لا تصدقوا هوليوود، فنصيبكم منها صورة امرأة مجندة تبتسم وترفع إبهامها بجانب جثة عارية لأحد أبنائكم، كلها سلاسل، من قصور الحكم إلى شرطى المرور المرتشى، وكلها من صنعهم وشرائنا، صنعوا لنا دولا برمتها واشتريناها قابلين وغنينا لها لنموت فى أقبيتها، صنعوا لها دولا لا لاستقلال الأمة بل لتفتيتها واحتلالها، ومازالوا يعدوننا دولا جديدة، وما العراق عن فلسطين ببعيد، كلها سلاسل والله لا يصنعون لنا غيرها، سلاسل من حديد وذهب وعسل وحلوى، ولكنها سلاسل لا تزال. إنها هذه بلادنا ونحن أكرم الناس على علاتنا، وأتصرف هنا بقول الشاعر، إن من يلقى العذاب كما لقينا.. فهو مخلوق جميل.
تميم البرغوثى استشاري بالأمم المتحدة
التعليقات