حَاسِبُوا أنفُسَكُم - شريف عثمان - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 4:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حَاسِبُوا أنفُسَكُم

نشر فى : الخميس 26 نوفمبر 2015 - 11:25 م | آخر تحديث : الخميس 26 نوفمبر 2015 - 11:25 م
تقترض الحكومات عادة لعجز إيرادات الدولة عن تغطية نفقاتها فى أى سنة مالية، وفى أمريكا، الدولة التى لم يعرفها أحد قبل ثلاثة قرون فقط، تحتد المناقشات حاليا، بسبب طلب الحكومة رفع سقف الاقتراض، حيث لا يحق للحكومة فى الولايات المتحدة الاقتراض «عمال على بطال»، فهناك سقف للاقتراض يتعين الالتزام به دائما، ويحق للحكومة أن تطلب من الكونجرس تعليق ذلك السقف فى بعض الأوقات، ولفترة محددة، وتعود الحكومة إلى السقف السابق بعد انتهاء هذه الفترة.

ويهدف وضع حدود قصوى لاقتراض الحكومة، إلى الزام كل من الحكومة والرئيس بترشيد الإنفاق، حتى لا تتفاقم الديون الأمريكية وفوائدها ــ حاليا تلك الفوائد صغيرة جدا وتقترب من الصفر ــ بصورة يصعب السيطرة عليها، بالإضافة إلى حرصهم على عدم تحميل الأجيال القادمة من الأمريكيين عبء سداد تلك الديون، وما يؤدى إليه ذلك من تحويل جزء كبير من موارد الدولة من الإنفاق (على البحث العملى، والتعليم، والصحة مثلا) إلى سداد تلك الديون. «أى أنهم يتعاملون بمنطق الأب الذى لا يريد أن يورط أبناءه بتَرِكَةٍ ضخمة من الديون بعد رحيله».

أما دول الخليج الثرية، التى لم تكن موجودة على الخريطة قبل بضعة عقود ــ والتى كنا نمدها بالخبراء الاقتصاديين، والمعلمين، والأطباء، والمهندسين ــ فلم تتجاهل حقوق أبنائها من الأجيال التالية، ولم تترك نفسها تنعم فى عز أموال النفط دون التفكير فى المستقبل. وشرعت تلك الدول فى تأسيس بنية تحتية ــ لم تكن الحاجة إليها ملحة وقت تأسيسها ــ بتكلفة ضخمة، تغنيهم عن الإنفاق عند ازدياد عدد السكان والمشروعات الاستثمارية، وتخدم الأجيال المتعاقبة، وأسس بعض هذه الدول صناديق «رعاية الأجيال القادمة»، وخصصت لها نسبا من العوائد النفطية، هذا كى لا يجد أبناؤهم أنفسهم دون موارد إذا ما تغيرت الأحوال مستقبلا، ولم تغط العوائد النفطية ما يتطلبه الإنفاق على التعليم والصحة والبنية التحتية.

وفى مصر، البلد الذى امتد تاريخه آلاف السنين، وشهد العديد من فترات الازدهار والانتكاسات، وتقلبات شديدة بين الغنى والفقر، لم يضع حكام مصر فى ما يُعرف بتاريخهم الحديث حدا للاقتراض، ولم تجد حكوماتهم المتتالية حرجا فى الاقتراض لتغطية العجز الدائم فى إيراداتها، حتى زاد بند فوائد الدين الحكومى ــ بمفرده ــ عن 244 مليار جنيه، وبنسبة تزيد على 28% من إجمالى نفقات الدولة فى موازنة السنة المالية 2015 ــ 2016 الحالية. هذا الرقم الضخم يزيد على مثيله المقدر فى موازنة السنة السابقة بنحو 45 مليار جنيه (نحو 22%)، وأيا كانت توقعات الحكومة لأسعار الفائدة فى 2015 ــ 2016، فإن تلك الزيادة الكبيرة تعكس ارتفاعا «كبيرا جدا» فى حجم الدين العام حيث بلغ حجم هذا الدين فى موازنة 2015 ــ 2016 نحو 2.6 تريليون جنيه، أى 26 وبجوارها أحد عشر صفرا» من الجنيهات المصرية، وهو ما يتجاوز الناتج المحلى الإجمالى المصرى حاليا، ويلاحظ أن هذا الدين زاد بمقدار 3 أضعاف خلال السنوات الخمس الأخيرة!

بند فوائد الدين المشار إليه ــ بمفرده ــ يتجاوز ما سيتم إنفاقه خلال السنة المالية 2015 ــ 2016 (طبقا لموقع وزارة المالية الإلكترونى) من أجور وتعويضات للعاملين، كما يزيد على أربعة أضعاف ما تم توجيهه للإنفاق على إجمالى الاستثمارات فى قطاعات الصحة والتعليم والإسكان والطرق والصرف الصحى والرى والزراعة مجتمعة فى العام المالى الماضى 2014 ــ 2015.

ارتفاع حجم الدين ــ وبالتبعية الفوائد المدفوعة عليه ــ كل عام سيزيد من عجز الموازنة، ما لم تحدث زيادة «مهولة» فى الإيرادات بصورة مطردة، وهو ما لا يُتوقع حدوثه فى المستقبل القريب وفقا للمؤشرات الاقتصادية الحالية.

ونستنتج مما سبق أننا أمام ضرورة ملحة فى الوقت الحالى لأن تقوم أول سلطة تشريعية منتخبة ــ فى أقرب وقت ممكن ــ بمناقشة وضع الدين العام من أجل وضع سقف للاقتراض الحكومى، يراعى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحالية والمتوقعة فى السنوات القليلة القادمة، ويأخذ فى الاعتبار معدلات التضخم والنمو واحتياجات الإنفاق الاستثمارى وعوائده، على أن يتم الرجوع إلى السلطة التشريعية مرة أخرى قبل تجاوزه، وذلك فى حالات الضرورة القصوى. والى أن يتم ايجاد سلطة تشريعية حقيقية تراقب أداء الحكومة وتحاسبها، يتعين على الحكومة أن تقوم بطرح قضايا الاقتراض والإنفاق الحكومى والموازنة للنقاشات المجتمعية، أو على الأقل مع المتخصصين فى الأمر ممن لا يعملون فى الحكومة. يجب ألا تُترك تلك القرارات ــ بما لها من تبعات على الجيل الحالى وعلى الأجيال القادمة ــ فى يد القائمين عليها حاليا» وحدهم، وبدون أى نقاش مجتمعى، داخل أو خارج البرلمان، على اعتبار أن الأمر لا مفر منه.

اقتراض الحكومات ليس عيبا، وتلجأ إليه أغلب الدول لتغطية العجز فى موازناتها، إلا أن العيب يكون فى عدم محاسبة من يتخذ قرار الاقتراض وفقا لمحددات عديدة مثل: كم وكيف وممن اقترض؟ «وكم دفع ثمنا لهذا الاقتراض (ماديا ومعنويا)، فبعض الأثمان قد ترفض دفعها الشعوب إذا عُرضت عليها، وبعضها قد يكون دافعا «قويا» لشحذ الهمم وتقوية الإرادة على ترشيد الإنفاق حتى يمكن الاستغناء عن تلك القروض.

لابد أن نحاسبهم حتى لا تلعنا الأجيال القادمة، بسبب الوضع الذى سنتركه لهم، «أو بمعنى أدق الوضع الذى سنتركهم فيه!». سنسمح لهم بالاقتراض لتغطية العجز، ولكن لابد أن نرى خطة لإنهاء ــ أو على الأقل تقليص ــ هذا العجز، إلى القدر الذى لا تجور فيه الفوائد المدفوعة على إنفاقنا الاستثمارى فى التعليم والصحة والإسكان.. إلخ. وأؤكد هنا أن الهدف ليس إحراج الحكومة، وانما هو الحرص على مستقبل أبنائنا بعد أن نرحل نحن عن هذه الدنيا. فبدون مراجعتهم، سيتقلص الإنفاق الاستثمارى الحكومى بوتيرة متسارعة، وهو ما يهدد بتحويل مصر كلها إلى حالة «العشوائيات»، بينما لا تكف الحكومة عن الإعلان كل يوم عن رغبتها فى القضاء على العشوائيات الحالية.

حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبكم الأجيال القادمة.
شريف عثمان مصرفي مصري
التعليقات