6ــ خطابنا الدعوى إلى أين؟ - جمال قطب - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 2:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

6ــ خطابنا الدعوى إلى أين؟

نشر فى : الجمعة 27 فبراير 2015 - 10:10 ص | آخر تحديث : الجمعة 27 فبراير 2015 - 10:10 ص

ــ المصدر: القرآن والسنة (هـ)

ــ1ــ

مازلنا نلح على حق القرآن فى إحسان التعامل معه باعتباره كله جملة لغوية واحدة، أو رسالة واحدة متكاملة لاعوج فيها ولا تضاد، بل جميع آياته وألفاظه فى غاية التناسق والسمو. ولعل القارئ يريد مثالا واضحا لما نزعمه من انعدام النسخ فى القرآن، فنذكر مثالا مشهورا عند أهل النسخ وهو حكم "صُنع وتداول وتعاطى وإدمان الخمور وما يُماثلها" فقد احتوى القرآن على أربعة آيات فى شأن الخمر، وأولها قوله تعالى ((..وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرا وَرِزْقا حَسَنا..))، وقد فهم المسلمون أن الله قد بدأ فى تبشيع الخمر وصرف الناس عنها، حيث قارن بين "السُكر" وبين "الرزق الحسن" فما ليس حسنا سيكون سيئا.. والعاقل من يهجر السيئات ويختار الرزق الحسن. وغير المسلمين أيضا فهموا ذلك، إذ قال أحدهم لرجل مُسلم: "إرجع عن الإسلام فرب مُحمد قد بدأ فى تحريم الخمر". ولو سألت العقلاء عن تصورهم لفحوى الآية، لقال جميعهم أن الآية بدأت تحرم "الطلب الاقتصادى" (التعاطى)، وبعد مدة زمنية جاءت الآية الثانية ((يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا..))، والآية واضحة أيضا أنها تُشير إلى ما فى "العرض" (إنتاج السلعة وعرضها) من منافع حيث خلو البيئة من الأعمال والمهن، لكنها تُحارب "الطلب" مما فيه من سوء تحول إلى "الإثم". وهكذا فالآية الثانية تحارب "الطلب" حربا سافرة، فالخمر فى الآية الأولى ليست شيئا حسنا، وفى الآية الثانية إثم بشهادة الله. وقد كان لهاتين الآيتين أثر كبير فى إقلاع غالبية الناس عن الخمر وعدم طلبها، ولا شك أنه كلما نقص الطلب تناقص العرض وتناقص التصنيع والبيع.

ــ2ــ

وبعد الهجرة إلى المدينة تغيرت الظروف الاجتماعية والاقتصادية للبيئة، ووجد الناس أمامهم حرفا وتجارات تُغنيهم عن تصنيع الإثم وعرضه، فأصبح المتربحون من الخمر يشعرون بضيق السوق وقلة الطلب من ناحية، كما يجدون فرصا لأعمال أخرى فضلا عن تزايد مشاعرهم الإيمانية.

وهكذا تهيأ المجتمع لنزول قوله تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ..)) مما زاد فى التناقص الشديد للطلب حتى تلاشى تصنيعه عدا بعض المُترفين، وهكذا ازداد شوق المجتمع للتطهر، فنزل قوله تعالى ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ))، هكذا ضم التشريع حالات مختلفة لكل حالة حكمها، ورغم ذلك ظن البعض أن الآيات نسخ بعضها بعضا اعتقادا منهم أن الشريعة تحتوى على حُكم واحد هو تحريم العرض والطلب والتعاطى والإدمان على الجميع وفى كل الظروف، ويظنون – سامحهم الله ــ أن التدرج كان موقوتا بظرف زمن التنزيل.

ــ3ــ

ومع شوقى لاختفاء الخمور من العالم كله – فإنى لا أستطيع اختصار أربعة أحكام قرآنية فى حكم واحد، فمازالت البشرية وسوف تبقى تعانى من خطايا كثيرة من الخمر "إنتاجا وتداولا وتعاطيا وإدمانا"، ولا يمكن مواجهة كل الحالات فى كل المجتمعات بحكم واحد. وأستشهد لذلك بما يفرضه الطب من ضرورة تناقص أثر المُسكر فى دم المُدمن ويتدرج فى تناقصه حتى يتم شفاؤه وابتعاده عن الخمر وإثمها، فعلم الطب يفرض تدرج التعاطى حتى لا تهلك نفس المريض بسبب فجأة سحب المادة المُسكرة أو المُخدرة.

كذلك أذكر حالة هؤلاء الذين جمعوا أموالهم من تجارة الخمر بشتى صورها ثم اهتدوا إلى الإسلام، فهل هل يتصور عاقل أن نقول لهذا العضو المُستجد فى المجتمع: اترك كل أموالك وعِش مُسلما فقيرا أو مُستحقا للزكاة والصدقة؟! أم أن الشرع والعقل يفرض علينا إرشاده إلى ضرورة الشروع فى "الإحلال والتغيير" وجدولة تبديل نشاطه التجارى طبقا لخطة مقبولة تناسب السوق فى فترة زمنية مقبولة حتى يتم تطهير التجارة والإقبال الكامل على الطاعة تماما كما سلك القرآن فى تنزيله يعلم الناس مواجهة كل حالة بحكمها. فالآيات الأربع ليست للتدرج فحسب، ولكن لتبقى جميعها فاعلة سارية حسب الواقع المؤلم سواء فى صحة النفس البشرية أو حرصا على المال وإحسان التدرج فى تطهيره على المستوى الفردى. ودون استفاضة فلا عِوج فى فهم القرآن، ولا نسخ أصاب حرفا من التنزيل الحكيم، فهل هكذا يُدرس القرآن فى الأزهر أو فى غيره من الدعوات المحاورة أو المناوئة له؟!
..يتبع

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات