إذا انصلح شأن المرور - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:58 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

إذا انصلح شأن المرور

نشر فى : الإثنين 27 مارس 2017 - 10:30 م | آخر تحديث : الإثنين 27 مارس 2017 - 10:30 م
كنا نحو سبعة اقتصاديين من بلدان مختلفة، نتحلق بمائدة جمعتنا فى صندوق النقد الدولى فى مايو من عام 2011، وما كاد ذكر مصر يأتى على لسان أحدهم حتى انتظرت بزهو حصد عبارات التهنئة بالثورة التى اعتدت عليها منذ وصولى إلى العاصمة واشنطن، لكن إحداهن ــ وكانت تعمل فى البنك المركزى ببلغاريا ــ داهمتنى بقولها: لقد أتيت إلى مصر من قبل وكان المرور سيئا للغاية، الوضع كان أشبه بالسيرك فى الشارع.. وعلى الرغم من جلافة صاحبة الرأى فى التعبير واختيار الموضوع، وعلى الرغم من تصدى أحد الاقتصاديين من بولندا لها وإفهامها أن بلادا كمصر وكاليونان (التى كانت ومازالت تعانى من صعوبات مالية خطيرة) هى حضارات كبيرة موجودة قبل نشأة التاريخ كما نعرفه، وهى قادرة على المرور بكل صعوباتها واجتيازها كما اجتازتها منذ آلاف السنين، وعلى الرغم من شهادتى ــ المجروحة ــ فى حق بلادى التى خرجت لتوها من ثورة صنعت بها تاريخا جديدا للمنطقة والعالم، وأن الفساد الذى أوصل البلاد إلى تلك الصورة قد سقط وحان وقت التغيير، فقد آثرت ألا أكون دفاعيا فى هذا المقام، واخترت وقتا آخر للانتقام من صاحبة الرأى، ووعدت الجميع بأنهم سوف يرون مصر أخرى خلال سنوات أو حتى أشهر قليلة. تمر السنة تلو الأخرى وتتعثر خطط الثورة وأهدافها، وتظل أزمة المرور وجها قبيحا لفقدان السيطرة على الشارع وضياع فضيلة النظام، وتشويه كل إنجاز يحرزه العاملون فى مختلف المجالات.

يتكرر هذا المشهد بصورة مختلفة منذ أشهر قليلة، ولكن هذه المرة فى الدار البيضاء بالمغرب، إذ يقول محدثى ساخرا: إن المرور فى مصر ليس له مثيل فى العالم، ولما أردت أن أقارن بين مصر و«بومباى» فى الهند أصر الرجل على موقفه، فوجدتنى أيضا أغضب لبلدى وأسارع فأذكر بخبث واقعة فقدى للحقائب وتغيير مواعيد الطيران بصورة عشوائية بمطار كازابلانكا، والذى قارنته بمطار القاهرة من حيث الخدمة والانضباط وحتى النظافة فتفوق الأخير بكل تأكيد. لكن هذه الغيرة على بلادى خاصة وأنا خارج القطر تظل فعلا عفويا حركته العاطفة لا العقل، والحق أن المرور فى بومباى التى زرتها منذ نحو عشر سنوات كان بالفعل أسوأ من نظيره فى القاهرة، لكن هذا لا يبرر الاستسلام إلى التراجع المخيف فى أوضاع المرور فى العاصمة، وبالتأكيد فى مختلف محافظات مصر وإن بدرجات متفاوتة.

إن أول ما يلاحظ السائح عند دخوله البلد هو المرور، وأول ما يحدث به عبر الوسائط المختلفة هو حال المرور، وآخر ما يرسب فى ذاكرته ويظل بها سنوات هو المرور، وكذلك حال المستثمر، خاصة هذا الذى يريد أن يستقر بأسرته وماله فى البلد المستهدف بالاستثمار. لا عجب إذن لو تراجع وزن السياحة فى الناتج المحلى الإجمالى وفى الإيرادات الدولارية إلى مستويات لا تليق بدولة كمصر تتمتع بطاقات سياحية هائلة وتنوع سياحى نادر. فكيف نرضى بعدد سائحين لا يزيد عن خمسة ملايين، ولم يزد أبدا عن عشرة ملايين سنويا فى أزهى عصورنا السياحية، بينما دولة كفرنسا تستقبل ما يزيد عن ثمانين مليون سائح فى العام؟!.

الطاقة الاستيعابية للفنادق والمطارات وغيرها من اعتبارات يمكن معالجتها خاصة ونحن لا نعمل بطاقاتنا القصوى، ولدينا رصيد هائل من العقارات المغلقة التى يمكن استغلالها بواسطة شركات متخصصة فى الاستثمار السياحى كما يحدث فى أوروبا، فتعوض بذلك قلة عدد الغرف الفندقية. أما المطارات، فمصر لديها مطارات دولية كثيرة يمكنها استيعاب العديد من الرحلات، فضلا عن مطارات جديدة تحت الإنشاء سوف تدخل الخدمة قريبا. كذلك لا تعكس تدفقات رءوس الأموال الأجنبية إلى مصر وزن مصر الاقليمى وتنوعها الاقتصادى ومواردها غير المستغلة، خاصة إذا كان الحديث عن استثمارات أجنبية مباشرة ــ غير ساخنة ــ ويتم تدويرها وإعادة استثمار الجانب الأكبر منها داخل مصر، لا تلك التى تأتى للكشف عن المواد الخام وتصديرها فى صورتها الخام بغير قيمة مضافة، مع استخدام مدخلات ومعدات مستوردة بالكامل لتوسيع عجز ميزان المدفوعات بأكثر مما كان.

فالأزمة إذن تكمن فى المناخ العام للاستثمار والسياحة، وهو رهن بكلمتين: الأمن والنظام.. وحالة المرور فى أى دولة هى مؤشر لكل من الأمن والنظام على السواء. فالمرور يعكس سيادة الدولة، وسلطة القانون، والقدرة على التنظيم، ورقى مستوى الوعى والتعليم، ومدى شيوع ثقافة احترام الغير، والالتزام.. فى المرور وحده يمكننا اختزال العديد من القيم، بل يمكننا معالجة العديد من أوجه الضعف بصلاح أحوال المرور وليس العكس.. فلو أننا ألقينا أزمة المرور على شماعة فساد التعليم وثقافة المجتمع وانتشار القيم السلبية.. إلى غير ذلك من عبارات يؤثرها المتحدث الرسمى لقلم المرور! فهذا قد يصح منطقا لكنه لا يستقيم مع الإرادة فى الإصلاح والتغيير، لأن إصلاح كل هذه النقائص ربما استغرق عشرات أو مئات السنين بفرض أننا وضعنا على طريق إصلاحها أصلا! شيوع وميوعة المسئولية لن يحل الأزمة أبدا، ولكن الحل يكمن فى إنفاذ القانون بكل قوة وحزم.. فالإنسان المصرى ربما استهان بالقانون والنظام لأسباب مختلفة معظمها يرجع إلى فساد التربية والتعليم، لكنه يظل كائنا عاقلا يخشى العقاب ويحفل بالثواب بفطرته.

لا جدوى من الجدل فى المسلمات والتى من بينها ضرورة نشأة القانون منذ «حامورابى» وربما قبله بقرون حتى ينضبط سلوك الناس، فإذا انضبط وأصبح سلوكا عاما تراجعت سطوة رجل القانون، وزاد دور الأسرة والمجتمع فى إنفاذه، لأنه أصبح بمثابة العرف السائد والخلق الرشيد. هكذا يمكن لمنظومة المرور لو انضبطت أن تكون قائدة لحركة إصلاحية شاملة عوضا عن بقائها فى خانة المفعول به.

بالنظام المرورى المنضبط المطبق بعدالة ومهنية وأدب على الجميع، يتعلم المواطن احترام القانون، واحترام النظام، وثقافة الانتظار فى الصفوف، وأساليب التواصل المحترمة مع الغير مع حفظ جميع الحقوق، دون حاجة إلى معارك أو بلطجة.. هذا كله يرسم لوحة جميلة لمصر فتعود ملتقى للحضارات، فيرتقى المجتمع بفعل الاختلاط والتنوع، ويتعلم الناس فى المدارس وخارجها أيضا، وتتحسن منظومتا التعليم والصحة بفعل الموارد التى تدرها السياحة والاستثمار.. كل ذلك يمكن أن يفعله المرور إذا تحول إلى مشروع قومى لا واجب روتينى ثقيل يقوم به رجل المرور بغضب ويأس، وفى غياب أى تفعيل للضوابط التى تحفظ أموال الناس وأرواحهم التى يزهق منها ما يزيد عن 12 ألف روح سنويا على طرق الموت!!

أكتب هذا المقال وأنا فى مقعد بجوار السائق أستمع فى المذياع إلى أحد المتحزلقين يطالب بتغيير قانون المرور (كعادة من يبحثون عن شماعات لفشل الأداء التنفيذى) وفى مواجهتى نحو عشر «تكاتك» تسير عكس الاتجاه، يقودها أطفال لا يملكون تراخيص قيادة. وتسير بجوارى ــ على «يسار» الطريق ــ مقطورة تحمل حجارة ضخمة مكشوفة تسقط قطعا قاتلة على السيارات والمارة.. فليت شعرى هل يسمح القانون الحالى ــ المراد تغييره ــ بتلك المخالفات ولا يجرمها؟ وليت شعرى ماذا ينتظر رجل المرور لإيقاف هؤلاء، بل أين رجل المرور؟ أو أين كاميرات المراقبة التى تمكنه من أداء وظيفته؟

إن المشروع القومى لتحسين وجه مصر وتنظيم مرورها يجب أن تتضافر فيه مختلف الجهود، لكنه يظل مسئولية جهة بعينها تتحمل العبء الأكبر، ولتكن مجلسا أعلى للمرور. ولتنشأ للمرور شرطته الخاصة بمعاييرها المختلفة وإدارتها المستقلة تماما كبداية.
خبير الاقتصاد والتمويل وإدارة المخاطر

 

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات