عشوائيات خلف الأسوار - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 1:47 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عشوائيات خلف الأسوار

نشر فى : الخميس 27 أبريل 2017 - 9:05 م | آخر تحديث : الخميس 27 أبريل 2017 - 9:05 م

منذ مطلع الألفية الثالثة وجدت الشريحة المقتدرة من المصريين أن الحل لمشكلات الزحام والضوضاء وفقدان الأمان فى الشارع يكمن فى الهروب إلى المناطق البعيدة، كلمة بعيدة هى كلمة معيارية بامتياز فكل بعيد يحوّله الامتداد العمرانى إلى قريب بعد سنوات لا تطول، لكن على أى الأحوال فإن التجمعات السكانية الجديدة أو الكومباوندز (كما يجرى التعبير عنها) سرعان ما انتشرت فى مدينة ٦ أكتوبر والشروق والتجمع الخامس واحتفظت بمسافة معقولة عن مراكز الكثافة التقليدية فى أحياء القاهرة والجيزة.
أحاطت تلك التجمعات نفسها بأسوار عالية يحرسها رجال أمن أشداء لا يسمحون بالدخول لكل من هب ودب، يدققون فى هويات الزوار ويستوثقون من غرض الزيارة. ومع الانتشار الكبير لتلك التجمعات بدا الأمر وكأننا إزاء مجموعة من الجزر المنعزلة تعيش فى كل منها بضعة آلاف من الأسر قد لا تحتاج للخروج والاحتكاك بالناس خلف الأسوار، ففى التجمع كل ما يغطى احتياجات تلك الأسر ويفيض. ومع أن الظاهرة بدأت بالأجيال الأكبر التى تجمع لها من شقاء العمر ما يمكن لها أن تودعه فى ڤيلا أو شقة سكنية فى واحد من هذه الكومباوندز الناشئة، إلا أن الظاهرة سرعان ما امتدت إلى الأجيال الجديدة فإذا بالعديد من الأسر الشابة تتخذ قرار النزوح «بالتقسيط» من العاصمة إلى الأطراف.
***
لكن منذ عدة سنوات أخذت تتجمع بعض النذر التى تفيد أن ما تركه سكان الكومباوندز خلف ظهورهم بدأ يتسلل إليهم من وراء الأسوار، بعض تلك النذر كان صادما كما فى مقتل مصرفية مخضرمة بواسطة رجل أمن سابق، ومع ذلك فإن الواقعة لم تكن الأولى فى تاريخ رجل الأمن هذا ولا فى سجل التجمعات السكانية الجديدة ككل، ثم جاء هذا الڤيديو الذى شاهدته قبل عدة أيام ــ والذى يتناول معاناة سكان واحد من أقدم هذه التجمعات وأفخمها ــ ليجسد ظاهرة تدهور أوضاع الكومباوندز كأوضح ما يكون.
خلا الڤيديو من أى اسم فلا مخرج ولا مصور ولا منتج، لكنه تميز بدرجة عالية من الاحترافية وكشف عن جهد معتبر فى إعداده. الأبطال هم عينة من السكان منهم المصرفيون والمهندسون وأساتذة الجامعات وربات البيوت، تركُوا جميعا مساكنهم فى الأحياء الراقية بالمهندسين والمعادى والهرم والزمالك بحثا عن الخضرة والهدوء والخصوصية. وفى بداية انتقالهم إلى الكومباوند بدا لهم وكأنهم وجدوا ضالتهم: درجة عالية من الانضباط لا تسمح بالخروج على النظام العام أو الشكل الجمالى الموحد للبنايات والڤيلات، ومستوى مُرْضٍ من الحراسة يحمل على الاطمئنان، وعدد من المحال التجارية يسُد الحاجة ولا يـسبب إزعاجا. قال أحدهم عندما حاولت سد نافذة منزلى مُنعت من أن أفعل والتزمت، وقال آخر حين نسيت زجاج سيارتى مفتوحا أتى رجل الأمن ينبهنى فأغلقته، وقالت ثالثة اعتاد أبنائى على اللعب بحرية والتردد على النادى بأمان لا شيء يهددهم، قال رابع وخامس وسادس الكثير عن النقاء والنظافة والسكون، الآن الوضع اختلف.
***
عندما تسمع أبطال الڤيديو يحكون عن الحال الذى آل إليه تجمعهم السكنى يرتج عليك الأمر حتى لتكاد تحسب أنك فى قلب أحد العشوائيات التى تنمو باضطراد على حواف الأحياء الراقية. الكتل الخرسانية المتراصة تقضم المساحات الخضراء وتتخذ أشكالا معمارية فوضوية بالمطلق، الأدوار المخالفة تعلو وترتفع وتتحدى دون رادع، المحال التجارية تنتشر بكل جلبتها وضوضائها وتفرض التسيب فى الرقابة على زوار الكومباوند بحثا عن الرواج، عدد رجال الأمن لا يتناسب مع تزايد عدد السكان وبعيدا عن الرقابة يُمَارس كل ما هو ممنوع بما فى ذلك تداول المخدرات، الميكروباصات التى تقل العاملين فى الكومباوند تسير فى الممنوع والبيتش باجى واسع الانتشار يقوده أطفال، أبراج المحمول المزروعة فى قلب المساكن تمثل خطرا داهما على الصحة، فماذا تبقى إذن من مظاهر العشوائية لم يقفز من فوق الأسوار ليعصف بكل الأحلام والأموال هذا هو السؤال الذى يطرح نفسه بعد أن نفرغ من مشاهدة الڤيديو والاستماع لشهادات السكان. فى هذا الخصوص قال أحدهم جملة بالغة الدلالة «لقد هربنا من وسط القاهرة.. لكن يبدو أن الإدارة مصممة على جلب وسط القاهرة لنا».
***
تكشف تجربة هذا الكومباوند التى عرضتُ لها ــ وهى ليست فريدة ــ عن أن حل مشاكل المدينة ليس فى إقامة أسوار فى وجهها، فهؤلاء النازحون من المدينة حملوا معهم جانبا كبيرا من سلوكهم العشوائى إلى داخل الكومباوند، وربما جرب بعضهم أن يمارس هذا السلوك داخل التجمع فوجد أحيانا من ينهاه عنه بينما لم يجد آخرون من ينهاهم، فالأمر إذن يتعلق بإعمال القانون على «الجميع» ودون استثناء خارج الكومباوند لنضمن إعماله داخل الكومباوند، فهذا هو المحك. ليست التجمعات السكانية عبارة عن مجموعة من الأخيار الذين فروا من آثام المدينة وشرورها، فكم واحد منهم أتيح له أن يختصر الوقت ويسير عكس الاتجاه ولم يفعل؟ كم واحدة قصرت مفهومها للنظافة على حدود شقتها؟ لا يوجد خط افتراضى يفصل بين سلوك ساكنى أحياء العاصمة والساكنين فى الكومباوند. وعندما ذكّر من تحدثوا فى الڤيديو بمسئولية أعضاء مجلس الإدارة لأن الانتخابات لم تأت بأفضل العناصر فإن كلامهم به جزء من الحقيقة، لكن على الجانب الآخر فإن هؤلاء المنتخبين لم يهبطوا من السماء فهم جزء من سكان هذا التجمع وبعض من نسيجه، وكل ما فى الأمر أنه عندما اصطدمت مصالحهم بمصالح الكومباوند الذى يقيمون فيه اختاروا مصالحهم أولا.
***
أختم بما قاله واحد من أبرز من ظهروا فى الڤيديو عندما سُئل عن تصوره للحل إذا لم يتم إيقاف هذا السيل من العشوائية فى السلوك والممارسات حيث رد بتلقائية مدهشة «سننتقل إلى كومباوند آخر»، وكأن الحل ببساطة يكمن فى تبديل الأسوار.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات