البنك والصندوق في عالم يتغير - سلمى حسين - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 7:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البنك والصندوق في عالم يتغير

نشر فى : الجمعة 27 أبريل 2018 - 9:10 م | آخر تحديث : الجمعة 27 أبريل 2018 - 9:10 م

هل ما زالت تتحكم الدول الغنية - الاستعمارية سابقا- في مصائر اقتصادات الدول النامية من خلال مؤسستي البنك والصندوق، كما كان يقال زمان؟ يراود السؤال المرء بمناسبة المحفل الذي يتكرر بشكل نصف سنوي، اجتماعات الربيع والخريف للبنك والصندوق الدوليين. انتهت اجتماعات الربيع قبل أقل من أسبوع، تاركة الأسئلة والأفكار.

 

بعض الشواهد تقول أن آليات السيطرة على الاقتصادات النامية ما زالت هي هي. القروض المشروطة ببرامج لا تنقذ ولا تغني. قروض خارجية تنهال من كل حدب وصوب يكون عرابها عادة هو الصندوق، الذي يبدأ بتوقيع برنامج ليشجع المقرضين العالميين -على دفق الدولارات داخل البلد المراد "إنقاذه". ركبت مصر الموجة مع دول كثيرة غيرها، أغرتها زيادة السيولة العالمية ورخص التمويل الدولي في لحظة لن تدوم.

فرض كل من البنك والصندوق اليوم برامج من كتب الأمس البائدة. كأن اللحظة توقفت عند عام ١٩٩٠ حين انهار سور برلين ثم الاتحاد السوفيتي، وظن كثيرون أنها نهاية التاريخ، وبداية الطريق الأوحد للتقدم. ونرى كيف في مصر بات الملايين يعانون من ويلات برامج البنك والصندوق خلال الأعوام الأربعة الماضية.

وكأن اقتصادا عالميا لم ينهار وكأن ثورات اجتماعية لم تقم.

 

ولكن، لنعلم أنه في طابق آخر من المبنيين الزجاجيين المتجاورين للبنك ولصندوق النقد، يشتغل باحثون وخبراء مع حكومات دول العالم الأول، كي يبتدعوا رواسي جديدة لاقتصاد عالمي يعمل من أجل الجميع، أو هكذا المرام.

 

لا أعلم إن كانت المؤسستان تعملان على استغلال اللحظة لتغيير طبيعة أجندة إصلاحاتها إلى أخرى أكثر عدالة، أم أنها تعمل على وأد التغيير المأمول باستخدام نفس المصطلحات الجديدة (التنمية الاحتوائية والمستدامة والمساواة في الفرصة والقضاء على الفقر) ولكن مع تفريغها من مضمونها. أعتقد أن كلا الجناحين موجودان يتفاعلان داخل المؤسستين، ولن تحسم النتيجة من داخل الصندوق، بل هي رهن لشكل العالم الجديد الذي سيولد.

 

أرق كبير: اتساع الفوارق بين الأغنياء والفقراء

 

مرت عشرة سنوات بالتمام والكمال على انهيار الاقتصاد العالمي المبني على أن حرية الأسواق حل كفيل لكل المشاكل. حينها سقطت مقولة النمو أولا، والتوزيع -أي مرحلة توزيع الثمار- يأتي تلقائيا. ومن ساعتها بات الهم همين: فالنمو غير كاف لخلق وظائف، وما يتحقق من نمو لا تذهب ثماره إلا إلى الأقلية الأكثر غنى.

اللامساواة هي الكلمة الأكثر ترددا بين أروقة محراب طالما اعتبرها أمرا حميدا ومحفزا للهمم. فصارت عدوا مثبطا ليس فقط للنمو العادل صديق الفقراء بل للنمو عموما.

 

على مستوى الأفكار، تراكمت على مدى السنوات العشر الكثير والكثير من الدراسات التي إن ترددت في التسعينيات للُعِنَ أصحابها واتهموا بالهرطقة الشيوعية. اليوم، بات مديرون في تلك المؤسسات الدولية يستشهدون بمقولات كارل ماركس. ولا تفوت كريستين لاجارد مديرة الصندوق فرصة لأن تردد أهمية إعادة توزيع الدخل لصالح الفئات الأقل دخلا، عن طريق الضرائب التصاعدية وتوزيع دخل أساسي معمم على المواطنين، بغض النظر عن المهارات أو القدرة على العمل، إضافة إلى وصول التعليم والصحة المجانية إلى الجميع. هو خوف جوهره ما تفضي إليه اللامساواة من تفشي الهبات الاجتماعية والإرهاب والشعبوية.

 

فإذا كان ذلك كذلك، فلماذا انتهى الأمر في مصر ببرنامج فرضه الصندوق، هو إعادة إنتاج لسياسات مريرة بل شريرة اجتماعيا، مثبطة للنمو، على وعد خاطئ بحال سينصلح؟ ولماذا لا تتعامل خبراء البنك والصندوق مع تلك القضايا التنموية والتوزيعية في برامجهما مع مصر، بدلا من الحديث الفني الضيق عن سعر الفائدة والاحتياطيات المتراكمة، والعجز الأولي للموازنة؟ أسمع كلامك أصدقك- أشوف أمورك استعجب. 

ويمكن تفسير هذا الانفصام بثلاثة عوامل، الأول أكبر من المؤسسات، وهو المأزق الحالي للاقتصاد كعلم اجتماعي. والثاني هو سيطرة الشركات الدولية العملاقة على مراكز صنع القرار في العالم، وأخيرا، الطبيعة السياسية للتغيير المأمول والذي يخرج عن رسالة وصلاحيات تلك المؤسسات كما رسمت لها منذ نشأتها.

 

تخلف علم الاقتصاد

 

ما زالت كل الجامعات حول العالم تدرس النظرية الاقتصادية الكلاسيكية التي ولدت في القرن التاسع عشر وتوابعها الخاصة بالنمذجة الرياضية التي تطورت في القرن العشرين، كنظرية وحيدة لتفسير المشكلات الاقتصادية، رغم سقوط افتراضاتها واحدا تلو الآخر بفعل الأزمة الاقتصادية العالمية.

 

وعلى الرغم من بزوغ محاولات نظرية كثيرة لإبراز نقاط التهافت، ولرسم معالم نظريات بديلة، إلا أنه حتى الآن لا يوجد إطار مفاهيمي بديل متسق ومقنع. ومن ثم، فعلم الاقتصاد كما يدرس في الجامعات من أرقاها إلى أدناها هو علم أكل عليه الدهر وشرب.

 

وعليه، فإن علبة الأدوات التي يتعلمها خبراء الصندوق والبنك -وأيضا الحكوميون في كل البلاد-، هي علبة محدودة تجاوزها الزمن ولم تعد صالحة للاستخدام في القرن الحادي العشرين. ويبدو الفنيون ومسؤولي الحكومات مثل مسؤولينا في مصر غير مقتنعين بما ينتجه العلم أو التجارب الدولية من أدوات جديدة.

 

معضلات عابرة للدول

 

يرجع عدد من المشكلات الاقتصادية في الدول المختلفة إلى تجليات سلبيات العولمة الاقتصادية والمالية. على رأسها قضايا التجارة الخارجية والتهرب الضريبي.

يشهد الوضع العالمي حاليا تغول سلطات الشركات العملاقة ذات الفروع المتشعبة فوق سلطات الدول. كان هذا الأمر مقبولا أثناء فترة نشر توافق واشنطن (نشر سياسات الليبرالية الجديدة وهي فترة توحدت فيها مصالح الشركات العملاقة والدول المتقدمة التي كانت تتكلم بلسانها في المؤسسات الدولية، وفي أي تفاوض دولي متعدد الأطراف).

أما في عالم اليوم، عالم ما بعد الأزمة، فإن مصالح الشركات بدأت تتباين عن مصالح الدول التي تأسست فيها.

مثلا، في أمريكا، بدأ العمال يثورون ضد الشركات الأمريكية التي تغلق مصانعها داخل البلاد، لتفتحها في دول فقيرة لتستغل الأيدي العاملة الرخيصة بها، تاركة العمال الأمريكان في بطالة وعوز. كما يعترضون على فتح الباب على مصراعيه أمام استيراد المنتجات المنافسة زهيدة الثمن من أركان الكرة الأرضية التي تتسبب في إغلاق المصانع والورش المحلية.

وفي الوقت الذي تعاني فيه معظم دول العالم من تزايد في الدين الحكومي وفي عجز الموازنة العامة، تنخفض معدلات الضريبة التي تدفعها الشركات وأصحاب الثروات بسبب ممارسات التهرب الضريبي العابرة للدول.

صار من الصعب في مصر مثلا أن تفرض معدل ضريبة مرتفع على أرباح الشركات بدون أن يعني هذا أن تحول الشركات أرباحها - بفضل مبدأ حرية حركة الأموال بين الدولي، وهو أحد مبادئ توافق واشنطن- إلى فروع لها في بلاد أخرى لا تفرض ضرائب، فتقعد مصر بدون موارد كافية للإنفاق على تطوير البنية التحتية أو على تنمية البشر.  

وهنا أيضا نجد انفصاما بين الخطاب وبين التنفيذ في المؤسسات الدولية.

فقد طورت مؤسستا بريتون وودز خطابا وقواعد يليق بحقبة ما بعد الأزمة، وحق الشعوب في منظومة ضريبية عادلة من أجل تخفيض الدين الحكومي. إلا أننا نجد أن مؤسسة التمويل الدولية IFC على سبيل المثال، التابعة للبنك الدولي والتي تختص بتقديم التمويل إلى القطاع الخاص، ما زالت غير قادرة على استيعاب الخطاب الجديد.

فقد تركزت معظم محفظتها في مشروعات تمتلك شبكات من المشروعات المخبأة في ملاذات السرية المالية والضريبية، كما كشفت دراسة حديثة صادرة عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. حتى مشروعات الطاقة الشمسية النظيفة، يتم إنتاجها بأيد "غير نظيفة"، وبأموال البنك الدولي.

 

فما هو الدور الذي يجب أن تلعبه مؤسسات التمويل الدولية في تلك الموضوعات العابرة للدولة القومية؟ إلى من تنحاز في هذا الوضع؟ إلى الدول الأعضاء التي توفر لها التمويل والثقل السياسي أم إلى مصالح الشركات التي صارت من القوة بحيث تأتي برؤساء وتطيح بآخرين سواء للمؤسسات أو حتى للدول نفسها؟

تقف مؤسسات بريتون وودز- أي البنك والصندوق- حتى الآن حائرة، لم تحسم خيارها بعد. وما لم يتغير ميزان القوى الحالي، ستظل أجندة توافق واشنطن هي السائدة على حساب مصالح الدول القومية وشعوبها. الجديد أن المعاناة صارت توحد بين شعوب الشمال والجنوب. ويفتح هذا أفقا للضغط من أجل عالم أفضل.

 

هل توزيع الدخل والثروة معركة سياسية أم اختيار تقني؟

 

اللامساواة ظاهرة مركبة. جوهرها صراع مصالح ولا تعالجها أدوات السياسة الاقتصادية بشكل تقني.

نشأت مؤسسات بريتون وودز في أعقاب الحرب العالمية الثانية، لتساعد على إعادة الإعمار وعلى بناء اقتصاد عالمي يتوافق مع مرحلة ما بعد الحرب. والتزمت المؤسسات - بالقول على الأقل- بأن أجندتهما هي اقتصادية فنية محضة. فهي لا تتدخل في السياسة الداخلية للدول، ولا شأن لها بحقوق الإنسان.

ولكن هذا الإطار الذي تدعي أنها ملتزمة به تنهار حدوده المرسومة بفعل التحديات الحالية. لا يمكن بحال القول بأن فرض ضرائب على الثروة لخفض الدين الحكومي هو تفصيلة فنية غير سياسية

إذا كان توافق واشنطن قد أدى على مستوى العالم إلى سيطرة الشركات والفئات الأغنى على برلمانات العالم، فإن تلك الضرائب لن تمر.

بل بالعكس، رأينا في الولايات المتحدة مؤخرا تمرير إعفاءات ضريبية سخية لتلك الشركات. الأمر بالمثل في قضايا العدالة البيئية، حيث سيقف أي برلمان يسيطر عليه مصالح رجال الأعمال أمام أي مشروع يفرض شروطا على الشركات كي تدفع للمجتمع ثمن تلويث البيئة الذي تتسبب فيه.

حتى الآن، يقف البنك والصندوق (وغيرهما من مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية) منحازا في برامجه إلى النظرة التقنية الضيقة للاقتصاد. وهكذا، تذهب هباء كل مجهودات المجتمع المدني من أجل تحسين/ تخفيف أثر السياسات التي تطبقها الدول وتباركها المؤسسات.

ورغم أن المؤسسات الدولية ​ تدعو مظلة واسعة من منظمات المجتمع المدني حول العالم للمشاركة في اجتماعات الربيع والخريف، إلا أن ترتيبات إسهام تلك المنظمات يجعل الأمر أشبه بحوار طرشان. فكأن الاجتماعات اجتماعان منفصلان: أحدهما خاص بالمجتمع المدني. يبدأ وينتهي قبل أن تبدأ الفعاليات "الحقيقية" وهي فعاليات مغلقة على مؤسسات بريتون وودز والحكومات. لا نقاش عام موسع. وحتى خلال الأيام الخمسة لمنتدى المجتمع المدني، لا يحضره كبار مسؤولي ومتخذي قرار الحكومات ولا مؤسستي بريتون وودز.

وبشكل خاص، لا ينبغي في عالم اليوم ألا تعارض  المؤسسات الدولية تقليص المجال العام الذي يسمح للمجتمع المدني بالمساهمة والنقاش والاعتراض على أي من المشروعات بسبب آثارها البيئية الضارة أو تلك التي يترتب عليها إخلاء قسري للسكان، فتلك الحركات تقابل بانغلاق المجال الإعلامي والمجال العام. بل وبالعنف الشرطي في كثير من الأحيان. السكوت هنا تواطؤ. وثبت أنه لا يساعد على التنمية التشاركية العادلة.

تخلق الأزمة الاقتصادية العالمية الحالية فرصا للتأثير وللتغيير. هي فرص من نوع جديد. فالخطاب الجديد للمؤسسات الدولية، حتى وإن بقى خطابا معسولا لا يصدقه العمل، إلا أنه يفتح مجالا للضغط على كل من تلك​ المؤسسات والحكومات باستخدام ذلك الخطاب الذي يتبنى رؤية اجتماعية أفضل من الإجراءات التي ينتهي بنا الأمر إلى تجرع سمها.

 

العالم بصدد صياغة عقد اجتماعي دولي جديد، الدول العظمى كما رسمها القرن العشرين صارت أضعف، وكذلك مؤسسات بريتون وودز أقل تماسكا، وفي ذلك فرصة.

 

 

باحثة وصحفية

 

الاقتباس

 

علبة الأدوات التي يتعلمها خبراء الصندوق والبنك -وأيضا الحكوميون- في كل البلاد، هي علبة محدودة تجاوزها الزمن ولم تعد صالحة للاستخدام في القرن الحادي العشرين. ويبدو الفنيون ومسؤولي الحكومات غير مقتنعين بما ينتجه العلم أو التجارب الدولية من أدوات جديدة.​

 

وبشكل خاص، لا ينبغي في عالم اليوم ألا تنتقد المؤسسات الدولية تقليص المجال العام الذي يسمح للمجتمع المدني بالمساهمة والنقاش والاعتراض على أي من المشروعات بسبب آثارها البيئية الضارة أو تلك التي يترتب عليها إخلاء قسري للسكان، فتلك الحركات تقابل بانغلاق المجال الإعلامي والمجال العام. بل وبالعنف الشرطي في كثير من الأحيان. السكوت هنا تواطؤ. وثبت أنه لا يساعد على التنمية التشاركية العادلة.

سلمى حسين صحفية وباحثة متخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة. قامت بالمشاركة في ترجمة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين، لتوماس بيكيتي. صدر لها في ٢٠١٤ كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة؟».
التعليقات