خلل بيئى - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:37 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خلل بيئى

نشر فى : السبت 27 مايو 2017 - 9:25 م | آخر تحديث : الأحد 28 مايو 2017 - 11:54 ص
الأجواء تشبه أفلام محمد خان، حين تبدأ الأحداث بأصوات الراديو المتداخلة فى إشارة مرور... زحام، وبرامج صباحية تتخللها أغنيات. على لسان المذيعة، يأتى ذكر اسم مفكر راحل عظيم وأبناء جيله، ضمن تفاصيل هامشية فى حياة يومية صاخبة، تعلن فيها المدينة القاهرة عن وجودها، ثم تنطلق موسيقى بداية مسلسل «وش تانى» وكلماتها: «السوق مليان وشوش، والرك بقى على التربية، وإلا دول ما اتعلموش وإلا انفصام فى الشخصية (...) اقلب على الوش التانى، وإديهم الوش التايوانى، ماهو كله بقى حلوانى وبدل الوش الواحد مية»، ما يزيد رغبتى فى التمحص فى وجوه المدينة، من حولى، خاصة تلك التى لم تحقق التوازن المنشود مهنيا أو عاطفيا، ولم تصل لسلام نفسى داخل المدينة. أخذت أراجع حكايات بعضهم وأرى تفاصيلهم الشخصية، وأربطها بالأسماء التى ذكرتها المذيعة منذ لحظات، فجاءت الصور متدافعة إلى ذهنى، كما لو كنت مدير التصوير سعيد الشيمى الذى رافق المخرج محمد خان فى العديد من أفلامه، وخرجا معا بالكاميرا إلى الشارع.
***
أرى حولى العديد من النفوس القلقة والحائرة وربما المتمردة التى لم تتمكن على الأغلب من الانتصار على قسوة الظروف التى مرت بهم، فقرر الكثيرون أن يدفع العالم ثمن أخطاء لم يرتكبها بحقهم وأن يوزعوا لعناتهم وسمومهم على المحيطين لكى يعانوا بدورهم. هناك حلقة مفقودة جعلت هؤلاء مختلفين عن السابقين، فجيل الآباء التى تحدثت عنه المذيعة كان لديه قدرة على التجاوز، على تحويل الصعوبات إلى أشياء حلوة، أما ورثتهم فقد عجزوا تماما عن ذلك. ابنة المفكر مثلا لم تستطع يوما تجاوز أزمة انفصال أبيها وأمها وارتباطه بأخرى وشعورها الدائم أنه يفضل ابنته المتميزة من زوجته الثانية التى لم يقترن بسواها حتى بعد سنوات من وفاتها. لم تنجح الابنة فى حياتها الشخصية وألقت بظلال إخفاقاتها المستمرة على شماعة فشل المؤسسة الزوجية، وتحولت إلى ندابة قاسية، على الرغم من ذكائها الموروث وثقافتها الواسعة. وأخرى صارت فى الستين من عمرها إلا أنها لا ترغب فى ترك دور الفتاة اللعوب لسواها، تريد أن تظل الابنة الصغيرة الجميلة، سليلة الحسب والنسب، رمز الغواية. لا تريد أن تخسر منافسة مع أى أنثى أخرى حتى لو كانت أختها الكبرى، فهى لم تتجاوز قط ظروف نشأتها وموت أبيها وما جاء بعده. أما غريمتها، فتشبه أنثى الثور الهائج التى لا تتردد فى تدمير بلد بأكمله حبا فى الزعامة والشهرة والمال والسلطة، ولماضيها وخلفيتها الاجتماعية بالطبع أكبر الأثر فى تركيبتها الحالية.
يرتفع مجددا صوت الأغنية فى الراديو، كما لو كان شريطا صوتيا، يعلق بالفعل على تركيبة هذه الشخصيات التى نقابلها على المقاهى وفى المنتديات والمؤتمرات، وقد وضعت القليل أو الكثير من الزينة ومستحضرات التجميل: «السوق مليان وشوش، والرك بقى على التربية، وإلا دول ما اتعلموش وإلا انفصام فى الشخصية (...) اقلب على الوش التانى، وإديهم الوش التايوانى، ماهو كله بقى حلوانى وبدل الوش الواحد مية». ومع الأصوات تتسرب إلى ذهنى تفاصيل من حيوات الكثيرين الذين لم يتجاوزوا مشاكلهم وعقدهم الشخصية، ربما لأنهم لم يعترفوا بها أو قرروا المضى قدما كما لو أن شيئا لم يكن. لم يغفروا، ولم يخرجوا ما بداخلهم من غضب وكره وحقد وخوف، ولم يقبلوا ما حدث لهم، بل اكتفوا بتجاهله ودفنه، لكنه سرعان ما يعاندهم ويخرج إلى السطح فى صورة تصرفات غير سوية، فى مجملها لن تجعل العالم أفضل من حولنا. البعض تقوده اختياراته الخاطئة لمرارة السنين. زوجته خانته ولم يرها من البداية على حقيقتها، لكنه يظل مصرا على العيش فى المستنقع. أقصى ما يحاول عمله هو لعب دور «الدنجوان» ليثبت لنفسه أنه مازال مرغوبا ومحبوبا، دون تجاوز أزمته الأساسية أو مواجهتها. وبالضرورة يقع على حرباية جديدة متلونة، ترسم لنفسها صورة من الصفر قائمة بالكامل على الادعاء والتاريخ الملفق. وآخر فقد أسنانه بسبب الفقر وسوء التغذية، وعلى الرغم من أنه نجح فى الكثير من الأمور لاحقا، فإنه كلما نظر إلى المرآة، لا يركز سوى على تشوه أسنانه ونصف الكوب الفاضى.
جميعهم يضعون «الوش التايوانى، وبدل الوش الواحد مية»، ويشكلون شخصيات درامية ثرية، لكن عندما يزداد عدد هؤلاء ويصبحون هم الأغلبية ومن بينهم تتكون النخب، نعانى من خلل بيئى حقيقى لأنه لا يوجد من يقابلهم عددا من الأسوياء والمتصالحين مع النفس فى الكفة الأخرى للميزان، وبالتالى لا غرابة أن يكون هذا هو حال العالم.
***
كنت أتمنى أن أكون مثل محمد خان الذى أحب ناس المدينة بشهامتهم وقسوتهم وخستهم، لكن الخلل البيئى يجعل من الصعوبة تحملهم بمكان. يدور مؤشر الراديو مجددا، فيصالحنى وجه آخر من شوارع القاهرة.
سمير صبرى يتحدث مع ابنة الملحن الراحل سيد مكاوى ــ أميرة ــ التى تكتب سلسلة مقالات عن علاقتها بأبيها وذكرياتها عنه، بعنوان «حكايتنا إحنا الاتنين»، وهى أغنية شهيرة لحنها لليلى مراد. الحكايات تبرز قطعا نوعا مختلف من البشر، مقارنة بالنماذج السالف ذكرها، هو النقيض الذى يحول المتاعب المستحيلة إلى تفاصيل هامشية، ويحول العجز إلى ابداع يقطر صدقا وولعا. الشيخ ــ الموسيقى كان يتعامل بسخرية وحكمة وسعة صدر مع كل شىء، يشع حنانا ومرحا ويجد فى الزمان الفائت أصدقاء على شاكلته. يتجاوز الصعاب ويتصالح مع الواقع ويسافر وحده ويضحك. يتخلص من السلبية الكفيلة بأن تحول حياتنا إلى جحيم، وينطلق نحو آفاق أرحب. أفرغ الشيخ سيد منذ البداية شحنة الغضب، لم يكن حانقا على العالم بأسره ويريد أن يكبده مشقة ما ألم به. مجرد سماع حكاياته والكلمات المحبة لابنته التى تريد أن يعرف الناس أباها كما عرفته هى تجعلنا نغوص فى زمن آخر، حينما كانت نسبة المتصالحين والمحبين تقترب ولو قليلا من نسبة الكارهين للحياة وللبشرية.

 

التعليقات