توازن الضعف - جميل مطر - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 9:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

توازن الضعف

نشر فى : الأربعاء 27 يوليه 2016 - 9:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 27 يوليه 2016 - 9:15 م
أعترف أننى كثيرا ما صرت أقف حائرا أمام قرارات عديدة صادرة فى شئون السياسة الخارجية، وأكثر كثيرا وقفاتى الحائرة أمام مداولات وقرارات مؤتمرات دولية وبخاصة أمام السلوك غير المعتاد أو المألوف لمجلس الأمن الدولى. أقول غير المألوف لأنه بالنسبة لى ولأبناء جيلى يبدو أقل كفاءة وفاعلية وجدية من نموذج مجلس الأمن الذى يتدرب عليه الطلبة فى كثير من الجامعات. بل لعلنى لا أذهب بعيدا إذا أعلنت أننى كتلميذ علاقات دولية لم أعد أعير الأمين العام للأمم المتحدة الراهن أى أهمية. فالرجل أهان منصبه أكثر من مرة، وهو المنصب الذى احتله فى وقت من الأوقات داج همرشلد.

أتساءل ماذا تغير أو من تغير، أو أن لا شىء تغير إنما أنا وحدى الذى تغير. ربما صرت أقل قدرة على استيعاب ما يحدث من حولى، إقليميا ودوليا، أم أن أعضاء النخب الحاكمة الذين يجرى تجنيدهم لوظائفهم الحساسة ينتمون إلى فصيل من الناس لم نعاشر مثله فى أيام سابقة، فصيل لن نفهمه ولن يفهمنا.

***

لست وحدى على كل حال الذى لا يصدق أنه فى وقت قريب جدا سوف يدخل البيت الأبيض رئيس لأمريكا رجل بمواصفات السيد دونالد ترامب. صحيح أننا عشنا موقفا مماثلا قبل عقدين حين حل على البيت الأبيض جورج بوش الابن، وقتها لم نصدق. ولكن أذكر أننا رصدنا عددا من التغيرات الدولية أقنعتنا بأنه الاستثناء الذى لن تسمح الطبقة السياسية الأمريكية بتكراره. الآن يتضح لنا، أو لى على الأقل، أن بوش الابن كان الإنذار الأول، وأنه سوف يتكرر إذا لم تتوقف حدة التغيرات الدولية ولم تنتبه الطبقة الحاكمة الأمريكية إلى أن الوعكة التى أصابت أمريكا تتدهور فى اتجاه أن تصير أزمة حادة.
أليست تجربة مثيرة لمن عاش فى أيام الذروة، ذروة القرن الأمريكى، أن يرى الولايات المتحدة تعلن عجزها عن التغلب على نظام حكم قمعى وظالم فى بلد صغير مفتوح على جميع الجهات وأغلب جغرافيته مسطحة وبسيطة، ويراها وقد استمرت عاجزة سنة بعد أخرى عن القضاء على تنظيم سلفى ارهابى يتحول من خلايا تمولها دول حليفة أو صديقة للولايات المتحدة إلى تنظيم عالمى يسعى لخلافة اسلامية تحتل روما وتسقط كنيستها وتقيم الدين الواحد.
ألم يكن مفاجئا لى ولعشرات من المتابعين تطورات وأعمال قمة الأطلسى التى انعقدت فى بولندا أن نرى الحلف بينما هو يقرر أن روسيا ما زالت تستحق أن تكون عدو الحلف ومبرر وجوده، وأن يقرر فى الوقت نفسه الأخذ باقتراح أمريكا، قائد الحلف، تخصيص ألف جندى من جنسيات متعددة لحماية دول أوروبية مهددة بخطر العدوان الروسى. بمعنى آخر لم تستطع قمة الناتو إخفاء حقيقة أن الغرب بأسره غير قادر أو مستعد لمواجهة عدوه الوحيد، ولا أحد من المسئولين الغربيين يخجل من الاعتراف بالعجز.

على الجانب الآخر، تقف روسيا تحت قيادة رجل وجهاز استخبارات قررا ذات يوم قبل عقدين انقاذها من خراب كان فى حكم المؤكد. منذ ذلك اليوم اختار الرئيس فلاديمير بوتين الصوت العالى أسلوبا فى العلاقات الدولية حين تكون الحرب غير ممكنة ويكون خصمك مثلك تماما مثخنا بالجراح ومنهكا. عرف بوتين مبكرا أن بلديهما، الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة، تنافستا وتسابقتا وتناطحتا حتى تمكن من كليهما الضعف والإنهاك. إن العلاقة الراهنة بين موسكو وواشنطن لمثيرة حقا للانتباه. خصمان لا تفرق بينهما عقيدة بعينها أو مصالح استراتيجية كتلك التى كانت تفرق بينهما قبل خمسين وستين عاما، أو حتى تلك التى كانت تميز حالة العداء المستتب بين روسيا من جهة وألمانيا أو فرنسا من جهة أخرى عندما كان توازن القوة هو المعيار المقدس الوحيد فى النظام الدولى آنذاك، ومع ذلك يستمران فى ممارسة خصومة تعتمد معيارا آخر، لعله معيار العصر، ألا وهو توازن الضعف.

***

لا أحد فى عالم الصراع، أو اللاصراع، اليوم لا يعرف المدى الذى وصل إليه ضعف خصمه، وفى الوقت نفسه لا يخفى ضعفه هو نفسه أو على الأقل لا ينكره. موسكو عندما قررت احتلال شبه جزيرة القرم كانت تعرف كل ما يهم أن تعرفه عن ضعف الغرب وبخاصة الاتحاد الأوروبى وحلف الناتو وعن ضعف أمريكا بالتحديد. ولكنها كانت تعرف أيضا أنها ضعيفة ولا تخفى ضعفها ازاء احتمالات تدخل أوسع من جانبها فى اوكرانيا.
ذات الوضع كان قائما وبنفس الوضوح حين قررت روسيا التدخل فى سوريا. لم يكن سرا أو صعبا على الفهم واقع أن كل الأطراف المتواطئة والمتقاتلة والممولة والمستوردة، كلها تعانى من ضعف يضمن استمرار الأزمة السورية إلى وقت غير منظور وبأقل الخسائر الممكنة للجميع باستثناء شعب سوريا. تدخلت روسيا مدركة أن الغرب الضعيف لن يجازف بأى شكل من مقومات القوة المتبقية لديه، بما فيها ما تبقى له من قوة سياسية، وهى غير كبيرة على كل حال. كذلك كان ضعف الغرب واضحا لروسيا حين تدخلت وكما صار واضحا فيما بعد للأطراف العربية وبخاصة اللبنانية وكذلك للطرفين الإيرانى والتركى، وبخاصة الأخير الذى تخبطت أنشطته فى سوريا أيما تخبط، لسوء تقديراته الأولية عندما كان خاضعا لجملة أحلام، أو قل أوهام، متناقضة.

***

هناك فى أقصى الشرق، أتابع بشغف تطور استراتيجية بكين لبناء دولة عظمى. تابعناها حتى وصلنا إلى مرحلة التوسع فى بحر الصين الجنوبى ببناء جزر اصطناعية متحدية ارادات ومصالح الدول الأخرى المطلة على هذا البحر. أتصور أن الصين تدرك جيدا أن الولايات المتحدة تستطيع أن تسبب للصين بالصخب الذى تفتعله فى جنوب وجنوب شرقى آسيا صداعا لا أكثر. تدرك أيضا أنها تظل قوة دولية ضعيفة بالنظر إلى طول حدودها ومصاعبها الاقتصادية وتاريخ طويل من علاقات خصومة ونزاعات مع دول الإقليم، كان تطورا له مغزاه حين اكتشفت الصين أن فيتنام تبنى جزرا اصطناعية فى تحدٍ واضح للصين. بمعنى آخر تقول فيتنام للصين، نعرف نحن دول هذا الإقليم نقاط ضعفك. أنتم أيها الصينيون ما زلتم بعيدين عن إقامة الصين العظمى، طريقكم طويل ولن نجعله سهلا.

***

قادة العرب أو من ينوب عنهم مجتمعون فى نواكشوط. يجتمعون مضطرين حتى لا تهتز الثقة بالقمة العربية اذا لم ينتظم انعقادها بعد أن انتظم انعقاد كل القمم العالمية. مضطرون أيضا لأن العرف، ونحن أمة أعراف، يقضى بأن يبارك الملوك والرؤساء الأمين العام الجديد قبل استلام عمله. مضطرون ربما لأن قرارات خطيرة تستعد لاتخاذها دول فى الجامعة العربية وتريد أو تتمنى قبل اتخاذها أن تجمع حولها مؤيدين أكثر. كان الأمل فيما يبدو أن حال الضعف الذى أصاب الجامعة وأعضاءها كفيل بأن يحقق لها ما تريد أن تحصل عليه. أستطيع من بعيد أن أخمن أنه وقع اكتشاف أن الضعف أوسع وأعمق من الضعف الذى بنيت على أساسه التوقعات.

على هذا الأساس أتصور أن القرار المهم والمتعلق فى ظنى بالصراع العربى ــ الإسرائيلى سوف يخضع لمطالب بتسريع اتخاذه قبل أن يتفاقم الوضع فى العراق. أتصور أيضا أن مشروع إقامة منظومة أمن إقليمى جديد يحتاج إلى إعادة نظر خاصة وأن فى المنطقة الآن تركيا جديدة مختلفة. تركيا موجودة ولكن شديدة الضعف.

كثيرون حسبما أعلم لم يتخيلوا أن الجيش التركى العرمرم الذى كان محل اعتبار كثيرين من منظرى أمن «عربى إقليمى» جديد يتفكك وينفرط فى ست ساعات أو ثمانى ساعات، تماما كما تفكك وانفرط جيش العراق من قبل. وعلى كل حال أعتقد أنه رغم كثافة السلاح المخزون فى المنطقة العربية ورغم الزيادة المتتالية فى أعداد الجنود فإن معظم الدول العربية تتصرف دوليا وإقليميا باعتبارها دولا ضعيفة، هى بسلوكها العسكرى والسياسى لا تدعى غير ذلك والعالم الخارجى ليس فى حاجة لمن يؤكد له هذا الضعف.

***

لا أظن أننى أبالغ حين أقول إننا نعيش فى ظل نظام دولى يعتمد الضعف معيارا لقياس التفاعلات والأحلاف الدولية، ويستطيع الإسهام فى تفسير تطورات الأزمات والصراعات الدولية. ما كنت أتمكن مثلا من فهم أزمة سد النهضة لولا أنى لجأت لتوازن الضعف معيارا لفهم مصدر الخلاف وتطوره، فهمت كيف أن طرفا تنبه ولعله تنبأ بضعف شديد أصاب أو يصيب الطرف الآخر بينما الطرف الآخر رافض حتى مناقشة مسألة الضعف وإمكان حدوثها. يبقى ضرورة فهم كيف استطاعت إثيوبيا نقل اقتناعها بحال ضعف مصر إلى أطراف عديدة فى أفريقيا وكيف ولماذا قررت مصر الاعتماد على حتمية وأبدية «قوتها ونفوذها» وعلى نظرية استعمارية، وللأسف عنصرية، تعتقد فى أبدية الضعف الإفريقى.
جميل مطر كاتب ومحلل سياسي