صَباحٌ ذَهَبيٌّ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 5:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صَباحٌ ذَهَبيٌّ

نشر فى : الجمعة 27 يوليه 2018 - 9:40 م | آخر تحديث : الجمعة 27 يوليه 2018 - 9:40 م

كان النسيمُ عليلًا، والفرحةُ تملأ الوجود. الذهبُ يلمع في واجهات المَحال الزجاجية العريضة، والمارة يروحون عليه ويجيئون؛ البعض يقف مُحدقًا في المشغولات المُبهِجة، والبعض الآخر يفضِّل النظر إلى الناحية المُقابلة؛ حيث استقرت امرأةٌ ثلاثينية على الرصيف، وأمامها كُراتٌ مُنبعِجة مِن الخسِّ، وحِزَم مِن الجرجير المُرصَّعة وريقاته بالثقوب؛ وقد هامت في بضاعتها بعينين واسعتين، فيهما احمرار خفيف زادها جاذبية وجمالًا.
***
تنامى الحيُّ وازدهر. كان الشارع الشهير سوقًا كبيرة، تقصدها النساء مِن القرى والكفور، مُتسلِّحات بما تيسر مِن فاكهة وخضروات، وبأوانٍ تحملُ الجُبنَ القديم، والقريش، والبيض؛ لكن الأحوال تبدلت مع النهضة التي أصابت الجميع؛ فتحول الشارع إلى سوقٍ أكبر وأعظم؛ فاق عددُ المَحال التي تبيع وتشتري الذَّهَبَ فيها، عددَ البشر؛ مقيمين وعابرين.
***
طافت رائحةُ الأسماك المشوية بالمكان، وداعبت الأنوف؛ فجذبت صاحبة الجرجير شهيقًا عميقًا، وهشَّت بيدها على الذباب المُتهافِت هشَّةً مُتكاسِلة ودودة، ثم ألقت ببصرها إلى الجمعية الاستهلاكية؛ ”فاميلي ماركت“، التي اكتظت بطوابير الباحثين عن التموين.
***
تصاعدت حماسةُ صبيِّ السمَّاك، الذي وقف كالقائد في وسط المعركة، يقذف السمكة تلو السمكة، ويصرخ مُستحثًا القائم على قلي الجمبري. تكاثفت الرائحة بشدة وعبأت السماء الرائقة، واقتحمت متجرًا متواضعًا؛ لتتلقاها امرأة ثانية تمسك بحقيبة قماشية، وتُجرب أمام مِرآة صغيرة سوارًا و“كولييه“. فكرت المرأة في وجبة الغذاء الوشيكة؛ فازدردت لعابَها دون صوت، وابتلعت الابتسامة الخفيفة التي تداخلت مع شروخ المرآة، مُستعدة للتفاوض على السعر، طالبة من البائع جرابًا ناعمًا مِن القطيفة؛ تدفن فيه إحساسًا غير مريح ينتابها في الآونة الأخيرة، كُلَّما حَنَّت للشراء.
***
تشاغلت في عدِّ النقود، بينما دلفت إلى المتجر سيدتان في أواسط العمر، تقتسمان كوبًا جميلًا مِن القصب، وتخوضان حوارًا جادًا ورصينًا، حول الذَّهَب الذي ليس ذهبًا. قالت الأصغر عمرًا إنه لا يصدأ ولا يترك على البشرة بقعًا أو فقاقيع، فعارضتها الأخرى دافعة بأنه يُباع عند الضرورة بقيمة الخردة التي لا قيمة لها. حسمتا الجدالَ بأن اتفقتا في النهاية على ما ليس مِنه مَفر: لولا الصين كنا اتعرينا مِن زمان.
****
على بُعد أمتار قليلة، تسلل الشواءُ المُفعم بالردة والزيوت إلى هواء المُكيفات البارد، حيث استقرت زبونةٌ في كاملِ زينتها وهيبتها على مقعدٍ وثير، وأمامها كوب مِن الليمون المَخلوط بالنعناع. لَوَّحت بيدها في حسم، دافعة عن مشروبها الرائحةَ غير المُناسبة، ثم رفعت الكوبَ وارتشفت مِنه رشفات قصيرة ورقيقة، بينما انحنى البائع عارضًا أمامها أحدث التصميمات في كل تَخَصُّص على حده: ذهب أبيض.. ذهب أصفر.. ذهب وألماس.. ذهب وزبرجد. جعل يُعدد المَزايا ويُصنِّف كل قطعةٍ تبعًا للعيار، باذلًا مِن الجهد ما يشيبُ له الولدان.
***
مَر الوقت سريعًا. لم يشعر به المُواطنون المُتفاعلون في فضاء الشارع أو ما تبقى مِنه، فقد أضفَت عليهم المَتاجر المُذهبةُ سعادةً كبيرةً٫ وأزالت عنهم ما تراكمَ مِن ضغوط. قامت ذات العينان الحمراوان حاملة بضاعتها، قافزة في عربة لادا قديمة تنقلها يوميًا إلى بلدتها، وخرجت المرأة ذات الحقيبة بحليِّها مِن المتجر؛ راضية بالجراب الأحمر، وفي ذيلها غادرت السيدتان؛ مُستأنفتان حوارهما البنَّاء، فيما أنهت الزبونةُ العصير الأخضر وقد تهالكت تعبًا؛ غير أنها لم تجد مِن الحلول سوى أن تعود في الغد؛ كي تقرر أيَّ الاختيارات أنسب.
***
بدا مشهد الحشد المُتزايد أمام الجمعية مُفرحًا بحقّ؛ النساءُ والرجالُ مُتكاتفون في شموخ وإصرار، يجمع بينهم تلاحمٌ حقيقيّ متين؛ لا يفتُّ مِن صلابته وتماسكه الجو الخانق، ولا تؤثر فيه درجات الحرارة التي جاوزت الأربعين. صباح ذهبيٌّ جليل.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات