حدوتة مش مصرية - محمد المنشاوي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 4:40 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حدوتة مش مصرية

نشر فى : السبت 27 أغسطس 2011 - 9:59 م | آخر تحديث : الأحد 28 أغسطس 2011 - 8:25 ص

 خرجت صحيفة واشنطن بوست منذ عدة أسابيع على قرائها، وفى صدر صفحتها الأولى صورة ضخمة للسيد «رون هايلير»، مصحوبة بتحقيق طويل عن عمله وعن حياته، وذلك بمناسبة إطلاق اسمه على احد أكبر قاعات فى مدرسة جينى الابتدائية Janney Elementary School بمنطقة تانلى تاون الثرية فى العاصمة الأمريكية.

لم يكن أحد يعرف هايلير، فلا هو مسئول بارز ولا هو حاصل على جائزة نوبل، كما أنه ليس من مشاهير السياسة أو الفن أو الرياضة.

يبلغ هايلير من العمر 55 عاما، قضى منها 30 عاما كعامل نظافة «فراش» فى المدرسة التى كرمته، بدأت الحدوتة عندما طلب أحد تلاميذ الصف الثالث الابتدائى من ناظرة المدرسة أن يطلق اسم الرجل، وهو من الأمريكان السود، الذى أفنى عمره فى تنظيف المدرسة وفى جمع مخلفات الطلبة والمدرسين، على أكبر قاعات المدرسة. وما كان من ناظرة المدرسة إلا أن طرحت الفكرة على المدرسين والعاملين بالمدرسة، ووافق الجميع خاصة بعدما أعلن هايلير أنه سيتقاعد نهاية هذا العام.

لم ينشأ هايلير فى واشنطن حالما بالوظيفة التى قضى فيها معظم سنين حياته، بل حلم أبوه، الذى كان يعمل سائقا للتاكسى، أن يكمل ابنه تعليمه الجامعى، وحلم هايلير أن يعمل مذيع راديو أو ممثلا. إلا أن هايلير لم يكمل تعليمه الجامعى رغم قبوله فى جامعة ميرلاند لأسباب مالية، وقبل بعد ذلك وظيفة عامل نظافة بإحدى المدارس خارج واشنطن، قبل أن ينتقل للعمل بمدرسة جينى الابتدائية عام 1981.

ولم ينكر هايلير ندمه على عدم تحقيقه لأحلامه الوظيفية، إلا أنه أكد «أن العمل فى مجال النظافة ليس عيبا خاصة عندما تدرك أن عملك من أهم الأعمال، وعندما يحترمك الجميع على ما تقوم به».

لم يكن هايلير عامل نظافة معتادا، فقد كان يثق فيه التلاميذ الصغار كثيرا نظرا لأنهم اعتادوا رؤيته كل يوم يقوم بأعمال النظافة فى جدية شديدة. وكان هايلير يحكى للتلاميذ قصصا كثيرة عن الصراع من أجل الحقوق المدنية الذى خاضه الأمريكيون السود خلال ستينيات وسبعينيات القرن الماضى.

وصورت واشنطن بوست، التى تعد من أهم صحف العالم، ويزيد توزيعها على 750 ألف نسخة يوميا، إضافة إلى ملايين ممن يتابعونها إلكترونيا، فى تقريرها منزل السيد هايلير، ولفت نظر صحفى الجريدة وجود كبير لتراث حركة الحقوق المدنية وصور لكبار قادتها مثل الداعية مارتن لوثر كينج، إضافة لصور عمالقة موسيقى الجاز الكلاسيكيين مثل «إيلا فيتزجرالد» و«دوك إلينجتون»!

كما وجد الصحفى رسالة تليغرافية معلقة على أحد حوائط منزله مرسلة له من البيت الأبيض بتاريخ 2 يونية 1967 وموقعة من السيدة بيرد جونسون، حرم الرئيس الأمريكى آنذاك ليندون جونسون، لحضور حفل استقبال بالبيت الأبيض يشارك فيه بعض فرق الكشافة من تلاميذ مدارس واشنطن.

ما قامت به واشنطن بوست يعد درسا مجانيا للصحافة والإعلام المصرى. كم تتشابه، بل تتطابق عناوين الصفحات الأولى فى الصحف المصرية على اختلاف توجهاتها. وبرغم التقدم الكبير الذى حققته الصحافة المصرية فى السنوات الأخيرة على صعيد حرية التعبير السياسى، إلا أنها لم تخرج بعد على قيود النظام الاجتماعى. ومازالت تنتهج «أسلوب القطيع الصحفى» فى اختيار الموضوعات التى تعالجها. ولم تجرؤ بعد على اختيار موضوعات مختلفة تعلى من قيمة المواطن العادى، وتبرز بعض القيم التى نحن فى أشد الحاجة إليها، وعلى رأسها قيمة العمل الشريف بغض النظر عن نظرة المجتمع له.

كثيرا ما التقى زوار أمريكيون بعد عودتهم من مصر، واعتادت دوما سماع عبارات المديح فى تميز جمال مصر وخصوصية القاهرة عن غيرها من الدول والمدن، إلا أن جميعهم يذكرون على استحياء أن القاهرة رغم عظمتها إلا إنها شديدة القذارة، ويتعجبون من قذارة المدينة بنظافة بيوت المصريين التى زاروها!

قضية قذارة القاهرة أخطر من مجرد وجود تلال من الزبالة فى مختلف أحياء مصر، الفقيرة والغنية منها، بل تتعلق برؤيتنا ورؤية المجتمع المصرى لقيمة النظافة وقيمة العاملين بها.

لا تتعرض الصحافة المرئية أو المكتوبة لأزمة النظافة بصورة تتناسب مع مخاطرها، قذارة مصر هى قضية أمن قومى يتم تجاهلها وتبسيطها، مثلها فى ذلك مثل وباء المرور وحوادث الطرق.

ينظر المجتمع المصرى لعمال النظافة نظرة دونية، ويتم التعامل معهم مثل التعامل مع الشحاذين. فى الولايات المتحدة يبلغ متوسط مرتب عامل النظافة الشهرى ما يقرب من 3 آلاف دولار شهريا، ويزداد المرتب مع زيادة عدد سنوات الخبرة، ويعادل ذلك متوسط دخل خريج الجامعة، لذا لا يقوم أحد بتقديم حسنة لعامل النظافة أثناء تأديته لمهام وظيفته.

فى اليابان، يطلق على عامل النظافة اسم «مهندس الصحة والنظافة» حيث إنه شخص مسئول عن صحة المدينة، ويخضع عامل النظافة هناك إلى اختبارات عدة للتأكد من قدرته الصحية والعقلية على القيام بمهامه!.

تصنف المجتمعات إلى عدة مراتب فيما يتعلق بالنظافة، فئة أولى لا يمكن أن نتخيل فيها مواطن يلقى ورقة أو عقب سجائر فى الشارع، ويصاحب ذلك احترام شديد لوظيفة عمال النظافة. الفئة الثانية دول تقوم فيها البلديات ليلا بجمع ما يلقيه المواطنون المستهترون فى الشوارع نهارا، وهذه الدول تكون غير نظيفة نهارا ونظيفة ليلا. أما مصر، فللأسف تقع ضمن الفئة الثالثة التى يقوم مواطنوها بإلقاء مخلفاتهم فى الطرقات، وتتكدس الزبالة فى شوارعها ليلا ونهارا، وهو ما يؤدى لانتشار الأمراض والأوبئة. ويعجز عامل النظافة فى هذه الفئة من الدول عن توفير قوت يومه، ويعتمد فى دخله على ما تجود به الأيدى.

لو كان رون هايلير مصريا، لكان عاش مهمشا يشحذ قوت يومه، ومات فى وظيفة صنفها المجتمع بالوضاعة، وانسحب قدره إلى أبنائه. أما «رون هايلير» الأمريكى، فقد تقاعد فخورا بما أسهم به لمجتمعه، وذلك بعدما اطمأن على ابنته الوحيدة بعدما قبلت فى جامعة جورج واشنطن المرموقة بالعاصمة الأمريكية.

محمد المنشاوي كاتب صحفي متخصص في الشئون الأمريكية، يكتب من واشنطن - للتواصل مع الكاتب: mensh70@gmail.com
التعليقات