حبينا عالتلفون - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 4:49 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حبينا عالتلفون

نشر فى : الأربعاء 27 سبتمبر 2017 - 9:55 م | آخر تحديث : الأربعاء 27 سبتمبر 2017 - 9:55 م
«على فكرة أنا كتير زعلانة منك» ــ أقرأ فى رسالة مكتوبة تصلنى على شاشة هاتفى.

«ليه؟» ــ أرد برسالة نصية.

«لأن كذا وكذا» ــ ترد على صديقتى برسالة صوتية تصل أيضا إلى هاتفى.

«ليه ما قلتى لى بوقتها؟ أنا كان قصدى كذا وكذا»، أرد برسالة نصية.

يستمر تبادلنا للرسائل لمدة تزيد على العشرين دقيقة، فيكبر مع كل رسالة فى داخلى سؤال يحيرنى منذ بدأ الناس من حولى تداول الرسائل النصية والصوتية: لماذا لم نحل الموضوع فى حديث مباشر، حتى لو كان الحديث عبر الهاتف؟ لماذا لا أتصل بها حتى يصبح الحديث فعلا حوارا؟

***

من الملاحظ أن إرسال جمل سريعة بات أسهل من فتح حديث عبر الهاتف سوف يأخذ وقتا قد لا يملكه الكثيرون. أنا ما زلت أذكر الأحاديث الطويلة على خط الهاتف الأرضى، والتى كانت تجلب لى تعليقات من والدتى أو جدتى على نسق «شو؟ عم تعملوا زيارة عالتلفون؟» حين كنا نحتل الهاتف الوحيد فى المنزل والذى غالبا ما كان فى غرفة الجلوس، أى أن الزيارات الهاتفية غالبا ما كانت زيارات عائلية، يسمعها جميع من فى البيت أو على الأقل من كانوا جالسين فى الغرفة.

***

لا أعرف صدقا فائدة الرسائل الصوتية الآنية حين تصبح تبادلا متتاليا فتتحول إلى حوار على مدى عدة دقائق. ما الذى يدفعنا لتفضيل إرسال جمل وانتظار أن نتلقى جملا أخرى بدل أن ندخل فى تواصل حى مع الشخص الآخر؟ طبعا قد يكون أسهل فى حال الانشغال بعدة أشياء أن نرسل الجملة ثم نعاود تقطيع الخضار أو ممارسة الرياضة أو قيادة السيارة. هناك قطعًا أسباب لوجستية تحسب لصالح الرسائل الصوتية، لكن هناك أيضا عادات بدأت بالتبلور، حتى أن استغرابى منها يبدو الآن أصلا متأخرا، وكأن القطار قد خرج من المحطة حاملا معه هواتف ثابتة قد تم انتزاعها من البيوت، بينما أقف أنا على رصيف المحطة ألوح وبيدى منديل لمئات المكالمات الهاتفية التى لن أكون جزءا منها بعد اليوم.

***

داخل القطار، القطار الذى يقل الهواتف القديمة، يجلس هاتف أسود بسماعة كبيرة وقرص نحاسى للأرقام. ينظر الهاتف الهرم من الشباك إلى الصور المتلاحقة ويتحسر على شبابه. كان الهاتف القديم يتصدر بيت العائلة، وكان صوته الجهورى يخترق غرف المنزل الكبير فيسمعه جميع من فى البيت. أمامه على الكرسى المقابل يجلس ابنه البكر، يشبهه إلى حد كبير لكنه أحمر اللون بقوام مربع أيضا لكنه أصغر قليلا. الهاتف المربع الأحمر عاش حياته فى بيت آخر أبناء صاحبة البيت القديم. حتى أنه، أى الهاتف الأحمر، يظهر فى كثير من الصور الباهتة، إذ لم يكن الناس فى ذلك الوقت يغيرون هواتف منزلهم طالما كانت ما زالت تعمل. «والحمد لله عمرى ما مرضت»، يقول الهاتف الابن لأبيه. ينظر الهاتف الأحمر هو الآخر من الشباك بينما يشق القطار طريقه نحو البحر.

تجلس أيضا فى العربة ابنة الهاتف الأحمر، أى حفيدة الهاتف الأسود، بقوامها الرشيق وشعرها الطويل. كان مكانها فى منزل الجيل التالى وكانت معلقة على الحائط، وكان يمكن شد رأسها، أى السماعة، بفضل شعرها الطويل، أى السلك الملفوف الذى كان يصاحب من فى البيت من غرفة إلى أخرى، سامحا ببعض الخصوصية التى لم تكن موجودة فى عهد والدها الهاتف الأحمر، أو جدها عمدة الهواتف الأسود ذو القرص النحاسى.

بالنسبة للركاب الثلاثة، فقد دخل العالم فى مرحلة الجنون الكامل منذ أن طغت الثقافة الرقمية على المكالمات الهاتفية. كيف يعنى أن تختفى فجأة مئات العلاقات الإنسانية التى نسجت عبر الهاتف، كيف يختفى كلام الغرام فى ليال نام فيها أهل البيت وبقى المحب صاحيا ينتظر أن تتصل به حبيبته؟ كيف انتهى عصر انتظار صوت المغترب حتى لثوان يقول فيها لأمه أنه اشتاق للقهوة من تحت يديها، قبل أن ينقطع الخط وهو يسمع دعاء أمه بأن يفتح الله له طريقه؟ 

***

لا يفهم ركاب القطار، الهواتف القديمة كما أصبح اسمها اليوم، لا يفهمون كيف انتهى عصر الكلام، ليحل محله عصر التصاق الوجوه بالشاشات وادعاء أصحاب الشاشات أنهم بذلك أصبحوا أكثر تواصلا مع العالم بأجمعه. انتهى أيضا عصر المفاجأة مع ظهور أسماء الناس على الشاشة حين يتصلون. نحن فعلا على تواصل أكبر مع العالم، إذ قد نكون على اتصال مع خمس جهات فى الوقت ذاته، قد نكون على علم بآخر الأخبار لحظة وقوعها، قد نكون قادرين على مواصلة عدة أحاديث فى نفس اللحظة لأننا ننتقل من شاشة إلى شاشة لكتابة التعليقات على حوارات متزامنة. لكن أين كل ذلك من أيام الـ«زيارة على التليفون» وأيام «بس كنت حابب أسمع صوتك»؟

***
أنا نفسى أجد أن أسرع طريقة لتغيير موعد أو حتى لدعوة الناس للقاء أصبحت من خلال رسالة نصية، لكننى أعترف أننى لست من هواة الرسائل الصوتية الفورية. إلا أن والدى، والذى يعتبر بين أولاد جيله شخصا انتقل بسهولة فائقة إلى عالم الشاشات والاتصال الرقمى، كثيرا ما يرد على رسائلى السريعة التى أطلب منه فيها شيئا محددا، فأراه يرسل ردا يبدأ بـ«أهلا صباح الخير يا تمارا، نمتى منيح؟» وكأننا فى حديث وجها لوجه. لذا، فأرانى أتذكر أغنية كثيرا ما رددتها فى طفولتى «ألو ألو تلفون تلفون، حبينا عالتلفون» وأنقر على رقم أمى أو رقم أبى، ربما ليس كل مرة، إنما من وقت إلى آخر فنغوص فى زيارة عالتلفون.
تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات