بل.. من أجلك أنت - سلمى حسين - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:04 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بل.. من أجلك أنت

نشر فى : الثلاثاء 27 أكتوبر 2009 - 10:27 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 27 أكتوبر 2009 - 10:58 ص

 
لم ينجح سعيد فى اجتياز امتحان آخر العام. والسبب أن أمه التى تعول الأسرة لم تستطع أن تدفع للمدرسين تكلفة الدروس الخصوصية فى النصف الثانى من العام الدراسى. ولم تكن المشكلة أنه لم يتمكن من فهم دروسه فهما لائقا.

بل كما تؤكد أمه أن ظروفها الصعبة حرمته من رشوة المدرسين فى شكل دروس خصوصية، حتى يتغاضوا عن جهله، ليمر إلى العام الذى يليه. وكانت النتيجة أن خرج سعيد من الصف الأول الإعدادى إلى الشارع ليقود توك توك، بدعم من أبيه الذى لا يعمل. «بم سيفيدك التعليم؟..

انظر إلى عمك، عنده عشرة تكاتك، ولا يعرف من العلم إلا حساب أرباحه»، هكذا أقنعه أبوه. نظر إليه سعيد بعينين تحيط بهما البثور، ونظر فى يده إلى الجنيهات التى يعود بها كل مساء. فكان ما كان. لتنطبق الدائرة المغلقة للجهل والفقر. فكلاهما يغذى الآخر، ويخال المرء أن البئر بلا قاع، فلا يستغرب هبوطه الدائم إلى أسفل.

مثل سعيد، بل وأصغر منه، هناك حوالى 2 مليون طفل مصرى يخرجون من المدارس. فطفل من بين كل خمسة أطفال لا يكمل تعليمه الابتدائى، وذلك وفقا لورقة عن التعليم أعدها أحد أقطاب الحزب الوطنى. مشيرا إلى أن هؤلاء هم الوقود الدائم لأطفال الشوارع ولجرائم العنف. فماذا سيقدم لهؤلاء ولنا جميعا مؤتمر «من أجلك أنت» القادم؟

أى شىء إلا التعليم الذى نستحقه. فعندما وقف المتحدث اللبق يخطب فى جمع من سياسيين واقتصاديين مصريين ودوليين، اعترف بأنه كان ينظر إلى قضية التعليم على أنها مشكلة تواجه مستثمرى القطاع الخاص.

هؤلاء الذين لا يجدون عمالا وموظفين ومهنيين مهرة ليوظفوهم فى مشروعاتهم. ومن هنا، من باب الحاجة الملحة والمصلحة المباشرة تبنى الرجل قضية تطوير التعليم داخل الحزب الوطنى، وشاركه الرؤية كثيرون من أعضاء الحزب من رجال الأعمال الذين تواجههم نفس المشكلة. وساقته الأقدار ــ أو قل التوازنات ــ ليلتحق بالمجلس القومى لحقوق الإنسان،

ليعترف بعد أربع سنوات من العمل بين جدرانه بأنه اكتشف أن التعليم حق من حقوق الإنسان، وأنه الأقدر على مساعدة أبناء الفقراء فى الخروج إلى الأبد من دائرة الفقر، كما هو ثابت من الدراسات والتجارب الدولية. واعترف أن التعليم الذى تقدمه الدولة المصرية لأبنائها لا يكفل لهم هذا النوع أو أى نوع من الترقى الاجتماعى، بل حتى لا يكفل لهم التعليم. الرجوع إلى الحق فضيلة.

حديث ساحر.. شخصية مؤثرة.. إجابات ذكية.. ملامح رؤية.. هكذا تستطيع أن ترى حسام بدراوى، مثله مثل العديد من كبرى شخصيات الحزب الوطنى، حتى لو كنت من معارضى سياساتهم. فلم يتوفر أبدا لدى الحزب الوطنى هذا الكم من الوجوه السياسية الموهوبة فى دوائره العليا مثلما هو الحال فى تلك اللحظة.

ورغم ذلك يبقى فى أضعف لحظاته سياسيا. ولعله لن يتجاوزها. ولا يستطيع أى مثال أن يثبت هذا الحكم القاسى مثلما يستطيع مثال التعليم. فلماذا لا تستطيع تلك الكفاءات الوصول بمؤشرات التعليم إلى منافسة الدول المتقدمة؟


لا يرجع ذلك إلى نقص فى النية. بل إلى تعارض فى المصالح يجعل من غير الممكن تبنى خيارات مختلفة. خيارات فعلا من «أجلك أنت».

فتطوير التعليم لا يحتاج إلى برامج حزبية، بل إلى ثورة. ثورة فى توزيع موارد الدولة وتحديد أولوياتها. هو يتطلب تضحيات كبيرة، لن تقدر عليها تلك الحكومة، ولن يدعمها الحزب. لأن شرعيتهما تستند على قاعدة مؤيدين من الأغنياء سواء من رجال الأعمال أو من كبار الموظفين فى جميع مؤسسات الدولة أو أغنياء المهن الحرة.

لجورج بوش الابن جملة طريفة قالها فى حفل أقامته على شرفه أحد منظمات رجال الأعمال: «يقولون عنكم النخبة ولكن أنا أسميكم قاعدتى». وهكذا يستطيع أن يقول الحزب الوطنى عن نفسه اليوم.


وهكذا، فالقدر الضئيل من الضرائب الذى يدفعه بعضهم لا يريدونه أن يذهب فى غير ما يفيدهم. وهم لا يستفيدون من المدارس الحكومية شيئا، فأولادهم طبعا لا يذهبون إليها. أما بالنسبة لحاجتهم من الأيدى العاملة، فلا أزمة طالما أن المعادلة ما زالت بشكل أو بآخر متوازنة بفضل قانون العدد فى الليمون، والذى يشرحه محمود محيى الدين وزير الاستثمار: «16 مليون فى التعليم، يخرج منهم اثنان مليون فقط، هم المؤهلون لما يطلبه سوق العمل».

ويفى هؤلاء بالغرض وليسقط الباقى فى البئر. وأغلبية المليونين الاثنين هم القادرون. ولهؤلاء متطلباتهم. وليس من قبيل الصدفة أن يكون وزراء المجموعة الاقتصادية وهم المسئولون عن تحديد ونمط الإصلاحات والإنفاق الحكومى (وهم الأقرب إلى مجتمع الأعمال الذى يشكل قاعدتهم القوية) هم الأكثر نفوذا وذكاء وحنكة سياسية، وأن يكون وزير التعليم هو يسرى الجمل الذى بلا ناقة ولا جمل.

وهكذا يزيح تناقض المصالح دائما التعليم لتسبقه مصلحة أهم لأصحاب الأعمال. تطوير التعليم فى مقابل تطوير البنية الأساسية من موانئ ومطارات وطرق. تطوير التعليم فى مقابل دعم البوتاجاز والسولار والبنزين.

تطوير التعليم فى مقابل سداد فوائد الدين العام الداخلى (التى تذهب فى النهاية لجيوب المودعين فى البنوك، وهم بالتعريف، من الطبقات الميسورة). من البديهى إذن أن يصبح هناك نقص دائم فى الموارد المخصصة للتعليم. وأن ينتج عن هذا النقص أغرب الأوضاع.

فالإنفاق الحكومى على التعليم يبلغ أقل من ثلاثين مليار جنيه، وهو مقدار هزيل لا يشكل إلا أقل من خمسة فى المائة من الناتج المحلى الإجمالى. فى حين تبلغ النسبة 10 ــ 15% فى الدول المتقدمة والكثير من الدول النامية مثل البرازيل وماليزيا.

وفى مقابل نقص التمويل الحكومى، تجد أولئك الذين ينفقون على الدروس الخصوصية، لديهم من النية ومن الموارد أن يمولوا تعليم أبنائهم. وتلك الموارد يصل مجموعها إلى أكثر من عشرة مليارات جنيه سنويا..

ولكن لكى يصبح التعليم حقا مكفولا للجميع، مطلوب أن تذهب كل تلك الأموال فى شكل ضرائب على الدخل إلى الدولة وتكون هى المسئولة عن توفير نوعية التعليم العالية التى توافق توقعات تلك النخبة، وتوفرها مدعومة للجميع..

أغنياء وفقراء على حد سواء. هذا النوع من الدعم هو ما تنادى به الآن المنظمات الاقتصادية الدولية، مثل البنك الدولى وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية. دعم شامل لكل أبناء الشعب، فقراؤه وأغنياؤه. ويرفض هؤلاء الخبراء توجيه الدعم إلى المواد الغذائية، فهو نظام قد أثبت فشله فى انتشال الفقراء من فقرهم. ويقول خبراء الدعم أن أفضل مجالات هذا النوع من الدعم هو التعليم، يليه الصحة.

الملخص: وزير تعليم عالم وقوى وطموح، ضرائب أكثر على الأغنياء، مدارس واحدة كفئة تجمع بين أبناء الحى الواحد، فقراؤه وأغنياؤه.. لا يمكن أن ينتج عن اجتماعات الحزب الوطنى أى تصور مشابه لذلك. فقد ضاق هامش الحركة حتى استحال إلى هامش عريض من السكون.

سلمى حسين صحفية وباحثة متخصصة في الاقتصاد والسياسات العامة. قامت بالمشاركة في ترجمة كتاب رأس المال في القرن الواحد والعشرين، لتوماس بيكيتي. صدر لها في ٢٠١٤ كتاب «دليل كل صحفي: كيف تجد ما يهمك في الموازنة العامة؟».
التعليقات