حلم عودة مبنى «هليوبوليس بالاس» إلى أصله!.. - سامح عبدالله العلايلى - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حلم عودة مبنى «هليوبوليس بالاس» إلى أصله!..

نشر فى : السبت 27 أكتوبر 2018 - 10:10 م | آخر تحديث : السبت 27 أكتوبر 2018 - 10:10 م

التراث المعمارى والعمرانى فى مصر، ركن أساسى من أركان هوية المجتمع، منه ما هو تاريخى متأصل فى القِدم.. مُعبرا عن خصائص عصور ماضية فرعونية أو قبطية وإسلامية، تُؤهله لاحتلال المكانة المناسبة على قائمة التراث المحلى والعالمى، مما يستوجب حمايته طبقا للمواثيق الدولية التى انضمت إليها مصر، ومنه أيضا ما هو حديث العهد نسبيا، لكنه ذو قيمة تُعبر عن خصائص حقبات زمنية أحدث.. ما زالت أحداثها حاضرة فى الذاكرة القريبة، مِن أمثلته ما هو نِتاج القرن التاسع عشر وبداية العشرين، ذلك النوع الأخير تعرض للتدهور التدريجى والانحلال.. بفعل عوامل الزمن وحمى المضاربات العقارية وتفشى القبح ووضع اليد للغير، بالرغم من وجود تشريعات يُفترض أنها تُوفر الحِماية اللازمة لهذه النوعية من التراث على امتداد الأراضى المصرية فى الحضر والريف، فإنه اتضح بالممارسة استحالة تحقيق الحماية المطلوبة فى ظل نظام إدارة العمران القائم.
لقد فطنت مجتمعات العالم الواعى وبعض مجتمعات العالم النامى، إلى ما يُمكن أن يُمثله التراث المعمارى والعمرانى من قيمة اقتصادية، بالإضافة إلى قيمته المعنوية، ذلك بحسن توظيفه واستثماره فى أغراض تُناسبه.. تُحقق مردودا اقتصاديا واجتماعيا يسمح بحمايته وصيانته وإظهاره دائما فى مظهر مُتألق، الأمر الذى ينعكس بالإيجاب على البيئة المحيطة وعلى أداء وقيمة المجتمع على المستوى العالمى.
***
من بين عناصر التراث ذى القيمة.. أمثلة عديدة لا حصر لها.. يمتد وجودها على اتساع أراضى مصر فى المدن والقرى على حد سواء، يُذكر منها أحد أهمها وهو مبنى فندق «هليوبوليس بالاس» أكبر وأفخم فندق فى العالم فى زمنه، ذلك الفندق الذى أقامه البارون البلجيكى إدوارد إمبان.. رجل الأعمال المستنير عام 1909، من بين منظومة مُبتكرة من الخدمات والمنشآت المتنوعة التى أقامها للترويج لمشروعه الطموح «هليوبوليس مدينة الشمس».. رائدة المجتمعات العمرانية الجديدة فى مصر وربما فى العالم أجمع، لقد كان الترويج المبتكر هو سلاح إمبان الرئيسى لإنجاح المشروع فى مواجهة تحدٍ عظيم بجميع مقاييس زمانه، وبفضل مواهبه وإصراره.. نجح فى النهاية فى تحقيق حلمه، وجاءت النتيجة ميلاد نموذج مثالي لمجتمع عمرانى مُتجانس متعـدد الثقافات والأعراق، يتناوله الباحثون فى جامعات العالم بالدراسـة، من بينهـم الباحث الفرنسى القدير Robert ilbert الذى حصل على درجة الدكتوراه من جامعة Aix en Provence عن قصة «هليوبوليس مدينة الشمس».
لقد استمر تألق ضاحية مصر الجديدة، الواحة الهادئة فى قلب الصحراء، بفضل نظام إدارة عمران صارم طبَّقه إمبان، مماثل للنظم التى كانت مطبقة فى المدن الأوروبية فى حينها، امتد تأثيره بفاعلية على حركة النمو العمرانى زهاء نصف قرن من الزمان، إلا أنه لأن دوام الحال من المحال، فقد تم تأميم شركة مصر الجديدة وواحات عين شمس التى أنشأها إمبان فى أوائل الستينيات من القرن الماضى، تلك الشركة التى كانت أسهمها متداولة فى البورصات العالمية، وتم تعيين أحد المقربين من الحكم رئيسا للشركة دون توافر المؤهلات اللازمة له لذلك، عندها حدث تغير فى نظام الشركة وفى الضوابط الحاكمة للنمو العمرانى وإدارته ما انعكس سلبا على أحوالها، بدأ بطيئا ثم تسارع بمرور الوقت.. وأدى فى النهاية إلى ظهور معالم شيخوخة مُبكرة على الضاحية الجميلة، إلا أن الضربة القاضية جاءت مع تطبيق نظام الإدارة المحلية، حيث انتقلت تبعية إدارة العمران إلى الأحياء، وتبعية المرافق والخدمات إلى جهات حكومية مركزية وشركات قابضة، بذلك تحولت شركة التنمية العمرانية العالمية إلى شركة إسكان محلية تابعة للشركة القابضة، انحسر نشاطها الوحيد فى إقامة مشروعات إسكان نمطية مثل إسكان شيراتون وغيرها.. ابتعدت تماما عن فلسفة مشروع إمبان.. وانتهى الأمر بتعرض قلب مصر الجديدة التاريخى إلى حدوث فوضى عمرانية شاملة، أما عن الامتدادات التى أنجزتها الشركة بمسماها الجديد.. فلم تخرج عن كونها رصات عشوائية لكتل خرسانية عديمة الهوية لا يمكنها بأى حال أن تُعبر عن ما كان عليه ماضى عمران مصر الجديدة.
***
عودة إلى مبنى هليوبوليس بالاس، فقد تعرض المبنى منذ إنشائه فى عام 1909 إلى مواقف متباينة، حيث تحول إلى مستشفى عسكرى لجرحى حربى 1914/1918 و 1939/1945، وفى مرحلة أخرى استخدم مدرسة للطيران، وفى أوائل الستينيات تحول إلى مقر الحكومة المركزية لاتحاد مصر وسوريا، وبعد فض الوحدة عادت تبعيته مرة أخرى إلى قطاع السياحة، حيث تم إعادة تجهيزه بالكامل لتشغيله الفندقى خلال فترة السبعينيات من القرن الماضى، واستمرت أعمال التجهيزات سنوات، وقبل أن يبدأ تشغيل الفندق فى أوائل الثمانينيات، وضعت رئاسة الجمهورية يدها على المبنى لتحوله إلى مقر للرئاسة، مما تتطلب الأمر إزالة جميع التجهيزات التى تم إعدادها وإعادة تأسيسه من جديد ليتحول المبنى بذلك إلى مقر رئاسى يفوق فى حجمه أحجام كل من ثلاثة قصور رئاسية عالمية هى البيت الأبيض وقصر الإليزيه و10 داوننج ستريت.

***
أما الآن.. وفى ظل ذلك العهد الجديد، فإن المطلوب هو إعادة النظر فى استخدامات مساحات أراضٍ وقصور تاريخية وأصول عقارية لا تعد ولا تحصى فى أغراض أخرى ذات جدوى تراثية اقتصادية اجتماعية نحن فى أشد الحاجة إليها تبررها احتياجات مصر إحدى دول العالم الثالث المثقلة بالديون.. مصر التى تتحسس طريقها نحو المستقبل، بداية من إزالة الآثار السلبية المتراكمة لما مضى فى جميع مناحى الحياة تمهيدا لإقامة دولة عصرية تتحقق فيها معايير جديدة لنظام الحياة.. ولإعادة الأمور إلى حجمها الطبيعى المناسب لخدمة المجتمع..
إن المبنى بوضعه الحالى الواقع فى قلب الضاحية التى كانت جميلة وبما يتطلبه من احتياطات أمنية وقيود الزيارات الرسمية التى تنعكس سلبا بشدة على محيطه خلافا لما يمثله إعادة استخدامه كما كان مخططا له فى الماضى من إنعاش اجتماعى اقتصادى لأحد أجمل مناطق مصر.
يأتى ذلك فى ظل ما يتردد عن قرب انتقال الرئاسة إلى المركز الإدارى الجديد فى اتجاه الغرب هنا ربما جاءت الفرصة لتحقيق الحلم الذى هو إعادة توظيف مبنى «هليوبوليس بالاس» أحد أصول المجتمع التراثية والاقتصادية طبقا لوظيفته الأصلية، كأحد أكبر وأفخم فنادق العالم.

سامح عبدالله العلايلى عميد سابق وأستاذ بكلية التخطيط العمرانى جامعة القاهرة
التعليقات