الإنجاب.. بين الحق والواجب - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 8:44 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الإنجاب.. بين الحق والواجب

نشر فى : الأحد 28 يناير 2018 - 10:00 م | آخر تحديث : الأحد 28 يناير 2018 - 10:00 م
وصل عدد المصريين فى عام ٢٠١٧ إلى ١٠٤ مليون نسمة، بزيادة ما بين 1.5 و 2 مليون نسمة سنويا. هذه الزيادة تحدث فى ظل أزمة اقتصادية طاحنة، وفقر مائى بات خطرا بعد أزمة سد النهضة، فى دولة تستورد معظم احتياجاتها من القمح. 

على مدار عقود كانت هناك محاولات للحد من الزيادة السكانية، وقد قامت الدولة من خلال وزارة الصحة والمجلس القومى للسكان وباستخدام وسائل الإعلام، بعمل حملات لتوعية المصريين بأهمية تحديد النسل. كان بعضها ناجحا نسبيا، واستطاع أن يخفض نسبة الزيادة السكانية السنوية حتى وصلت مليون نسمة سنويا لكن بعد ثورة ٢٠١١ عادت المعدلات إلى الزيادة مرة أخرى.
هذه الزيادة يصحبها زيادة الفجوة بين المطلوب والمتاح من الخدمات الأساسية المكفولة للطفل فى الدستور، فعدد المدارس ونسبة الطلبة للمدرسين، والكثافة داخل الفصول وجودة التعليم، كلها تتأثر سلبيا بزيادة عدد الأطفال سنويا. أسرَّة المستشفيات الحكومية والجامعية وخاصة أسرَّة الرعاية المركزة والحضانات المتاحة أقل كثيرا عن ما هو مطلوب لسد احتياجات اثنين مليون طفل يضافون إلى جموع المصريين سنويًا. 

***

«المال والبنون زينة الحياة الدنيا»، والطفل لأهله مصدر سعادة قد لا يجدونها من أى متعة دنيوية أخرى، فالغنى والفقير يستمتع بها، والإنجاب من القرارات المصيرية القليلة التى باتت متروكة للمصريين، فقليل من المصريين يتحكمون فى مسارهم المهنى أو مستقبلهم الاقتصادى، فالأسرة التى نولد فيها والمستوى الاجتماعى والثقافى يُفرَض علينا من قبل أن نولد ومعه تتسع وتضيق خياراتنا. وبالتالى ففى دولة يقع دخل ٨٥٪ من أهلها تحت خمسة آلاف جنيه فى الشهر يصبح الإنجاب انتصارا على القهر فى أحيان كثيرة. الأطفال ضمانة اجتماعية أن لنا مستقبل آمن بعد أن نصل إلى سن التقاعد حيث إن عددا منهم تحت مظلة تأمينية ويضمنون معاشا كريما بعد سن التقاعد هم القلة. وفى ظل أوضاع المرأة المصرية والتى تجعل من الفتاة مُعالة بحكم المجتمع وظروف تربيته ورؤيته لها يضيف النوع بعدًا آخر للإنجاب، فيصبح إنجاب الذكر مصدر أمان للأسرة؛ لأنه مطالب اجتماعيا وثقافيا بتحمل مسئولية الوالدين بعد الكبر.

هذا بالإضافة إلى المفهوم الثقافى والوضع القانونى للزوجة الذى يجعل حقوقها أكبر كثيرا وأكثر ثباتا إذا ما كانت أمًا، خاصة إذا ما كانت أمًا لذكر. ففكرة أن حياتها الزوجية والتزام زوجها «بواجباته» المادية وبقاءه فى عش الزوجية فى وجود عدد أبناء أكبر وهى فكرة مبنية على تجربة وحقيقة اجتماعية راسخة. 
وفى مجتمع مازال سن الزواج فيه مبكرا جدا، وهناك العديد من الوسائل المستخدمة يوميا للتحايل على السن الحالية للزواج وهو ثمانية عشر عاما للفتاة والمنصوص عليه فى القانون استنادا إلى مادة الدستور التى تعتبر كل من هو تحت هذا السن طفلا غير أهل لاتخاذ قرار مصيرى (وعن حق) مثل قرار الزواج، وبالتالى يحمى الفتاة من اتخاذ هذا القرار بالإنابة عنها، مازال يكسر القانون يوميا خاصة فى الريف لكن أيضا فى الحضر. هذا الواقع يطيل جدا فترة إخصاب المرأة والتى تمتد منذ زواجها فى سن الطفولة.
***
إذا لم نر فى زيادة تعدادنا السريع خطرا حقيقيا على مستقبل أبنائنا فى هذا الوطن، وإذا اخترنا أن نلقى على الدولة فى أى عصر وأيا كان من يتولى أمر مصر، مسئولية توفير حياة كريمة لمليونى طفل يضافون سنويا لتعدادنا فنحن نختار ألا نكون شركاء فى مصيرنا، نختار أن نكون مفعولا بنا ولسنا فاعلين. لأن تاريخ البشرية يثبت أن المجتمعات التى تكبر أسرع من قدرتها على الاستثمار فى ثروتها البشرية يكون مصيرها ضعفا فى كل شيء، فالتعليم والصحة والسكن والمياه والتنمية البشرية كلها مرتبطة بتقسيم المتاح على عدد النسمات فى مكان ما. 
مصر تعانى من ظلم فى هذا التقسيم، تعانى من عقود من سوء توزيع موازنة الدولة وعدم الاستثمار فى تنمية الإنسان وهذه حقيقية لو أنكرناها لن نتقدم، وكوننا كأفراد نتحمل مسئوليتنا فى حجم عدد الأطفال المضافين للمجتمع لابد أن يصاحبه استمرار فى المطالبة بحقوق هؤلاء الأطفال فى حد أدنى من الحياة الكريمة.

هناك أمثلة كثيرة لدول استطاعت دون قهر أن تقلل من نسب الإنجاب بنجاح. ومن أهمها جنوب إيطاليا التى استثمرت فى تعليم المرأة والذى أدى إلى تمكينها اقتصاديا، وخلق جيل من النساء لديهم مسار مهنى واستقلال فى اتخاذ قراراتهن واتخذوا قرارا واعيا بإنجاب طفلين بالمقارنة لأمهاتهن اللاتى أنجبن خمسة وستة أطفال. والتحقت جنوب ايطاليا على مدار جيل واحد فقط بالعالم الأول سواء فى التعليم أو المستوى المعيشى أو الانتاج أو حتى القدرة على اتخاذ قرارات سياسية. هذا لم يحدث بقانون يمنع الإنجاب أو يعاقب الأسر، ولكن بقرار سياسى باستثمارات ضخمة فى تعليم الأطفال والتركيز على الإناث ليلتحقن بزملائهن من البنين فى كل مجالات التعليم والعمل. 

***

أخيرا، هناك أزمة حقيقية فى مجتمعنا دائما ما يتم تجاهلها فى تناولنا للأزمة السكانية، وهى المسئولية الأخلاقية والقانونية للآباء والأمهات على حد سواء نحو أبنائهم فى حمايتهم من قسوة الحياة. فمجرد تناولنا لفكرة أن الآباء لا يمتلكون أبناءهم، فمع قرار الإنجاب هناك التزام على الغنى والفقير، فإرسال الأبناء للمدرسة وإعطاؤهم تطعيماتهم وحمايتهم من مخاطر عمالة الأطفال والوجود فى الشارع ليس محل نقاش. هذه مسئولية مباشرة على الوالدين يجب أن نحاسبهم عليها، وهذا ليس قهرا، هذا مطلب أخلاقى على المجتمع لأن الأطفال أضعف فئة فى المجتمع وهى فئة تفتقر إلى القدرة على اختيار مصيرها، وأأمن مكان لأى طفل هو حضن أسرته حتى لو كانت ذات قدرات محدودة. ومجتمعنا تغير بشكل خطير فى نظرته لأبنائه، من مجتمع كانت تفتخر فيه الأسرة بأبنائها وتعتبرهم عنوانا لها، إلى مجتمع يستبيح الأهل فيه إرسال فتاة قاصر إلى أسرة تخدم بها دون أدنى قلق على سلامتها الجسدية أو النفسية أو الانتهاكات الجنسية التى يمكن أن تواجهها. وأسر لا تعبأ بوجود أبنائها فى سن صغيرة فى الشارع طالما أنهم يرفعون عنهم عبء لقمة عيشهم، وأسر العائل الرئيسى فيها هو الطفل وإخوته بينما الأم والأب البالغان لا يعملان. هذا انهيار مجتمعى أدى إلى تفاقم ظاهرة أطفال الشارع وعمالة الأطفال، وهو نابع من عدم حماية المجتمع لأطفاله حتى لو تطلبت الحماية محاسبة أقرب الناس لهم والذين هم مسئولون عن حمايتهم فى المقام الأول. وقد تكون المحاسبة القانونية الصارمة على التسرب من التعليم أو الإهمال فى التطعيم أو عمالة الأطفال (للآباء وأصحاب العمل) من الأسباب التى تجعل الأسرة تفكر قبل اتخاذ قرار إنجاب الطفل الثالث والرابع والخامس.

الأطفال أغلى من أن نتعامل معهم دولة وأفرادا بهذا الاستهتار، سلامتهم مسئولية مشتركة بين الأسرة والدولة والمجتمع، وعدم إدراكنا لهذه المسئولية يزيدنا بعدًا عن نقطة تحول مصر من دولة نامية إلى وضعها الذى تستحقه بين الأمم الرائدة. يوم أن يعود الطفل المصرى عنوانا لأسرته هو اليوم الذى سنخطو فيه أول خطوة نحو حلمنا بمصر التى نتمناها لهم.

 

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات