القاهرة: مدينتى وثورتنا (١٨) - أهداف سويف - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 12:08 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القاهرة: مدينتى وثورتنا (١٨)

نشر فى : الخميس 28 مايو 2015 - 12:15 م | آخر تحديث : الخميس 28 مايو 2015 - 12:15 م

الموجة الأولى

الثلاثاء أول فبراير - مساء

علاء إبن ليلى سجنه نظام مبارك عام ٢٠٠٥ لأنه كان من الشباب الذين ساندوا حركة استقلال القضاء المصرى. سجنوه ٤٥ يوما فى طرة، فى نفس السجن الذى قضى فيه أبوه، أحمد سيف، خمس سنوات فى أوائل الثمانينيات لنشاطه السياسى اليسارى. لم تتحمل ليلى زيارته. أختى الواضحة المحددة الصاخبة الحاضرة صمتت. طُمِسَت معالمها. تاهت. مربيتنا، دادة عزيزة، التى كبرت وانحنت وقاربت من فقدان بصرها تعنفها من فرط الألم: «انبسطتي؟ ارتحتي؟ ده كله من عمايلك! كل يوم مظاهرات مظاهرات مظاهرات! أديكى ضيعتى الواد!” وليلى لا تجيب. لم يكن هناك ما يستطيع أى منا أن يعمله من أجلها. خمسة وأربعون يوما، ثم خرج. والآن قد عاد من عمله فى جنوب افريقيا مع منال والثورة مشتعلة، وأحمد سيف يقود فريق الحقوقيين فى مركز هشام مبارك للمساعدة القانونية فى الدعم العملى والقانونى للثورة. منى تقوم بشغلها فى المعمل وفى اتصالات الثورة. وتتبقى سناء، ١٧ سنة، تعيش فى دماغها وفى الميدان مع أصدقائها، تسمع وتفهم وتجمع معلومات. هى فى الثانوية العامة. فى وقت متأخر من الليلة ستلجأ هى وأصدقاؤها إلى شقة فى عمارة تشرف على التحرير وفى ساعات سيتحولون إلى مجلس تحرير جريدة “الجورنال”؛ أول جريدة ورقية مستقلة تصدر عن الميدان.

أهاتف عمر فيقول إن البلطجية يهاجمون التحرير وإن هناك معارك على ثلاثة مداخل للميدان وأن الشباب كَوَّنوا خطوط دفاع. يقول إنهم يرون عربات النقل تمر وراء المهاجمين بالدعم والإمدادات.

هناك جانب مفيد لكل هذا: سوف يقتلع أى تعاطف مع مبارك بدأ ينبت عند الناس بعد العرض الزائف الذى قدمه لنا مساء أمس. مرة جديدة يستعرض النظام بلادته، لا يستطيع ابتكار تصرف محترم أو مجدِّد فيلجأ إلى خليطه المعتاد من الكذب والتزييف والتهديد المضمن والعنف. مساء أمس مثَّل أمامنا ميلودراما مُبْكية، ثم لم ينتظر أن تؤتى ثمارها بل عاد فى ساعات إلى العنف الغبى. هى طبيعته وهى حدوده.

تهاجم ميليشيات البلطجية التحرير من كوبرى قصر النيل فى الغرب ومن أربعة شوارع فى الجانب الشرقى ومن المدخل الرئيسى، الشمالى، من ميدان عبدالمنعم رياض. يبادر الشباب إلى تأمين مدخل الميدان من شارع التحرير ليحموا المستشفى الميدانى فى مسجد عباد الرحمن. ويبادر الجيش إلى سد شارع قصر العينى ليؤمن الوزارات ومبنى مجلس الوزراء وفيما عدا ذلك لا يفعل شيئا.

على مدى اليوم يهاجم البلطجية مداخل الميدان فيصدهم الشباب. يصبح ميدان طلعت حرب مقر إدارة العمليات للبلطجية، وتصبح منطقة وسط البلد مسرحا للمعارك المستمرة حيث يتراجع البلطجية من مداخل الميدان يستجمعون أنفسهم ليقوموا بهجمة جديدة. لساعات طوال تشتعل المعارك الشرسة على حدود الميدان، وبداخل الميدان تستمر الحياة.

«معركة الجمل». هى الأساليب نفسها التى استعملوها ضدنا ــ ضد كل محتج ومتظاهر ــ طوال السنوات الخمس الماضية، الأساليب نفسها التى استعملوها فى الانتخابات ليرهبوا الناخبين من النزول إلى الشوارع والمشاركة، عادت إلى الظهور وبوحشية مضاعفة. هذا هو النظام الذى يَعِد بأن يستمع إلى الشعب ويستعمل الشهور القادمة ليبدأ فى الإصلاح!

ستكون لعبتهم القادمة أن يقولوا إن شباب التحرير هم عناصر خارجية، أو تندَسّ بينهم عناصر خارجية، وأنهم على علاقة بشبكات الإرهاب، وأنهم زاروا أفغانستان، وأنهم يريدون العبث باستقرار مصر. لكن اليوم العالم كله يعرف أن هذا النظام نظام كذاب بطبيعته، “الكذب عنده كالتنفس”.

يهاتفنى عمر ولا أكاد أتبين صوته من الضجيج. يقول بملل: «ممكن تكلمى الظابط ده اللى بيحاول يقبض عليا وتقوليله إنى مصرى وإنى ابنك؟»

أقول: «أيوه طبعا. آلو!»

أسمع صوت رجل يقول: «أنا مش هاكَلِّم حد! أنا عايزك تيجى معايا»

ــ «انت قلت ممكن تكلم حد من أهلى»

ــ «أنا مش هاكلم حد. أنا باشُكّ فيك»

ــ «آلو! آلو!»

ــ «إحنا بنتناقش بقالنا نص ساعة وانت فى الآخر قلت»

ــ «أنا ظابط فى الجيش وباشُكّ فيك»

ــ «آلو! كلمني!»

ــ «كلم أمى»

ــ «باشُكّ فيك»

ــ «كلمني! كلمنى أنا»

ــ «خلاص يا ماما خلاص» يقول ابنى فى التليفون ويقفل السكة. أظل أطلبه وأطلبه ولا أصل إليه.

•••

أصل إليه بعد ساعة. الضجيج فى الخلفية فظيع. أصيح: «حصل إيه؟»

«فى إيه؟»

«فى الظابط»

«ولا حاجة. مشيناه. الناس ساعدتنى»

السابعة مساء

تتصل بى معدة نشرة أخبار القناة الرابعة فى التليفزيون البريطانى لتقول إنهم لن يستطيعوا أن يرسلوا سيارة لتأخذنى إلى الاستوديو لأنهم لا يستطيعون تحمل مسئولية سلامتى. الاستوديو الذى يستخدمونه يقع بين فندق رمسيس ومبنى الإذاعة والتليفزيون، ومدخله فى الشارع الصغير الموازى لكورنيش ماسبيرو. فى يوم عادى تستغرق التمشية من بيتى إليه عشرين دقيقة.

التاسعة مساء

هل يبدو الأمر غريبا لعمال الجراج؟ أخرج إليهم من الظلام فيضطرون إلى تحريك السيارات ليفتحوا طريقا لى لأركب سيارتى وأخرج. كل يوم آتيهم بسيارة شكل؛ فأنا ليست عندى سيارة أساسا وأستعير المتاح من سيارات الأسرة. الليلة معى سيارة خالتى. أعتذر. مدخل الجراج لا باب له ــ لم يكن بحاجة لباب أبدا. هذه الأيام يسدونه بسيارة دفع رباعى سوداء ضخمة وعليهم الآن أن يحركوها لكى أطلع. وسوف يضطرون إلى تحريكها مرة أخرى حين أعود. تَعَبتُهم. أقول: «شغل ــ» وأشير إشارة تعنى أن الأمر ليس بيدى، أى لست امرأة مجنونة تتعبكم فى تحريك السيارات لتخرج فى الليل وسط الظلام وحظر التجول لرغبة أو مزاج …

أمُرُّ خلال حاجزين للجان شعبية. يعتذرون لى: «آسفين جدا على إزعاج حضرتك». أشكرهم: «بالعكس. ده أنا متشكرة جدا على اللى انتم بتعملوه». يا لأدبنا! يا للطفنا! كم أُحِبُّنا وأحبُ الشوارع وأحبُ الثورة. أتجه إلى كوبرى ١٥ مايو. ينقر رجلٌ مارٌ على شباك السيارة. أفتح فيقول: «فيه ضرب فى وسط البلد. بلاش ترُوحى».

«مضطرة. عندى شغل».

هو غير مرتاح. زميلى فى المواطنة، فى الإنسانية، قلق علىّ. يقول: «طيب، خللى بالك».

•••

نظرة من أعلى الكوبرى ترينى الدبابات متمركزة حول مبنى الإذاعة والتليفزيون، ثم أمر إلى جانب ذلك المبنى المحبب إلى نفسي؛ مبنى الإسطبلات الخديوية، رءوس الخيل الناتئة عنه مسرفة فى عجائبيتها الليلة. اسأل نفسى إن كانت دقيقتان فى نشرة الأخبار فى انجلترا تساوى هذا المشوار؟ لكن الحقيقة أن هذه الدقائق ليست سبب نزولى الليلة؛ نزلت لأنى اريد أن أقترب مما يحدث فى التحرير، ولأنى لن أسمح لأحد أو لشىء أن يمنعنى من التحرك فى مدينتى. هذا هو الطريق الذى كنت أمشيه مع دادة عزيزة وأنا فى الثامنة، قبل أن ينشئوا هذا الكوبرى، حين كنا نتمشى عبر كوبرى أبو العلا لنشترى الفراخ البلدى وفسيخ شم النسيم من بولاق، وفيما بعد كان هذا طريق تمشيتى مع أصدقائى إلى وسط البلد، إلى المحلات وإلى السينما. أشتاق إلى الكوبرى الحديدى القديم وأكره هذا الطريق الأسمنتى الطائر لكنهم لن يحولونى إلى غريبة خائفة فى مدينتى وعلى بعد عشر دقائق من بيتى. أنزل إلى بولاق.

الشىء الغريب حقا هو غياب الناس من الشارع. شوارع القاهرة لا تخلو من الناس أبدا، مأهولة هى دائما، سيدات وبنات تتمشى، رجال يجلسون فى أبواب متاجرهم، شباب يتلكأون، ناس تدخل وتخرج من المقاهى وتقف على محلات العصير وتتجمع حول عربات الأكل. حتى فى تلك الساعات الساكنة بين الثالثة والخامسة فجرا تجد عمال النظافة والحراس والبوابين والغفر ورجال يجلسون إلى شوادر الخضار أو الفاكهة ومداخل الأفران والصيدليات التى تفتح طول الليل. فى الشتاء كثيرا ما تجدهم يتحلقون نارا موقدة، ومن يزور المدينة للمرة الأولى يظن دائما أن هناك حدثا ما، حدث استثنائى، مولد ربما أو احتفال، ليخرج كل هؤلاء الناس إلى الشارع. خبرة جديدة أن أجد نفسى فى شارع خالٍ وهذا الهجران يقلقنى. أقاوم فكرة أن أُأَمِّن باب السيارة من الداخل.

حاجز يواجهنى عند تقاطع شارع الجلاء. اللجنة الشعبية هنا شعبية الشكل أكثر من أختها فى الزمالك. فى الواقع لست متأكدة إن كانت لجنة شعبية فعلا أو أمن دولة بملابس مدنية ــ أو حتى بلطجية، لكنى أفتح شباكى وأرفع رخصة القيادة والبطاقة الشخصية فيشيرون لى بالمرور.

ثارت بولاق على الفرنسيين فى ١٧٩٨، ونجح الفرنسيون فى احتجاز أحد قادة الثورة: الشيخ مصطفى البيشيتى. أخمدوا الثورة، وقصفوا بولاق فدمروها، ثم أفرجوا عن الشيخ البيشيتى وسلموه للناس فقتلوه.

أمر بالمستشفى التى ولدت فيها وأقف بالسيارة قبل هيلتون رمسيس. هناك ثلاث سيارات أخرى فى الموقف ويقول المنادى إن الوقوف الليلة بعشرة جنيهات لأن الوضع خطر. لا أعرف إن كان الرجل مناديا فعلا أو بلطجيا. كيف ترى الفرق؟ سأفترض أن كل من أتعامل معه هو مواطن عادى سوى إلى أن يثبت العكس. على بعد مائة متر تدور المعركة. أختى وأولادها داخل الميدان، وأصدقائى، وابنى. بقلبى أراه يقف على شىءعالٍ، يحتفظ بتوازنه لكى يصور المشهد، أُبعِد نفسى عن الصورة وأهاتف منسقة البرنامج فتقول إنها ستأتى لتصطحبنى، تنبهنى ألا أمشى وحدى. أمشى وحدى على كل حال فألتقيها وندخل المبنى من خلال الجراج ثم السلم الخلفى لأن المدخل العادى للعمارة مغلق. فى الأستوديو ناس كثيرون. عدد من محطات الإرسال والقنوات تستعمل هذا المكان وواضح أن الكثيرين وصلوا إلى هنا بدون مشاكل. غدا سيأتى البلطجية إلى هذه الشقة والى كل استوديو فى المنطقة وسيضعون أمامهم خيارين: إما أن تغلقوا وتتوقفوا عن العمل أو نُكَسِّر لكم المكان والمعدات. أما الليلة فلا زالت الاستوديوهات تحكى للعالم عما يجرى هنا، فى الميدان.

العاشرة مساء

وما يجرى هو إحدى المعارك المحورية فى الثورة.

تمكن الشباب من هزيمة البلطجية فى الشارع، فتراجع النظام من قصر النيل والمداخل الشرقية والآن يركز هجومه على المدخل الشمالى للتحرير: الطريق الواسع الذى يخرج من ميدان عبدالمنعم رياض، تحفه فى الشرق مدرسة الفرنسيسكان وبعض المبانى السكنية، وفى الغرب المتحف المصرى. جزء من كوبرى ٦ اكتوبر يمر فوق هذا الطريق والنظام اتخذ موقعه على الكوبرى، كما وضع بعض رجاله على سطح أحد المبانى السكنية المجاورة للمدرسة. الشباب يرون هؤلاء الرجال لكنهم لا يرون القناصة المتمركزين على أسطح المتحف المصرى وفندق الهيلتون. من حين لآخر يلمحون أشعة ليزر خضراء تلتمع بين صفوفهم فيشُكُّون أن هذا يشى بوجود القناص. قبض الشباب على بعض البلطجية وحين تفقدوا بطاقاتهم اكتشفوا أنهم جنود فى الأمن المركزى. حين يقبض الثوار على مهاجم يصورون بطاقته ثم يسلمونه للجيش.

من كوبرى ٦ اكتوبر ومن الأسطح يقذف النظام الحاكم المواطنين بالطوب والحجر وكسر السيراميك والرخام والزجاجات والمولوتوف. تطير كرات النار وتتساقط وسط الناس على الأرض. يتمكن الشباب من الوصول إلى سطح البناية المجاورة فتكون حرب الحجارة والمولوتوف من سطح إلى سطح، لكن النظام يتميز بوجوده على البناية الأعلى، وعلى الكوبرى لديه سيارات الإسعاف وعربات الأمن المركزى والميكروباصات المدنية تأتيه بالإمدادات من رجال وذخيرة.

المعركة تدار حول تمثال الشهيد عبدالمنعم رياض، أركان حرب الجيش المصرى أثناء حرب الاستنزاف مع اسرائيل. الشهيد عبدالمنعم رياض قتله الاسرائيليون بقذيفة وهو وسط رجاله فى الخندق رقم ٦ على شاطئ قناة السويس فى ٩ مارس ١٩٦٩. اشتهر بقوله إن مكان القائد مع رجاله. عيناه الآن مسلطتان على مواطنى مصر يدافعون عن قلب عاصمتهم.

اصطف المواطنون فى تشكيل قتالى: يشكل كبار السن خطوط الإمدادات، ينزعون صفائح السور المعدنى من منطقة العمل الغامضة المجاورة لهم فى التحرير، ويخلعون الحجارة من الأرصفة. يعبئ الشباب الحجارة فى البطانيات ويجرون بها إلى الجبهة. شباب الصف الأمامى يقذفون الحجارة ويرفعون حائطا واقيا من صفائح السور المعدنى. الحائط يحجب عنهم الرؤية فيقذفون بالطوب مهتدين بإشارات مايسترو يقف إلى الوراء قليلا، مرتفعا، ممتطيا هيكل مدرعة محروقة. وراء الخط الأول ببضعة أمتار يقف خط ثان. هؤلاء هم الاحتياطى. حين يسقط شاب أمامى يأخذ الاحتياطى مكانه. ووراء الاحتياطى ببضعة أمتار يقف ثلاثة صفوف من الأماميين الجدد؛ حين تأتى الإشارة سيتقدمون ليأخذوا مكان أصدقائهم فى الصف الأول. وبين الصفوف تقف مجموعات على أسطح عربات مختلفة؛ يمررون المعلومات ويرفعون الأعلام. على جوانب الطريق بدأت التموينات فى الوصول: قنائن المياة وأكياس الخبز. تأتى مجموعات من الخُوَذ فتذهب أول مجموعة فى الحال إلى الشابات: الطبيبات والمساعدات والممرضات اللائى يسعفن الجرحى وراء الصفوف. الحالات الصعبة يجرون بها عبر الميدان إلى مسجد عباد الرحمن. أى فرد لا يقوم بعمل يشتغل بقرع الطبول، والطبول هى الصفائح المعدنية من ذلك السور، يقرعها الناس بإيقاع ونشاط وهمة عالية، مُدَوِّية رتمية منتظمة مُحَمِّسة، هذا صوتنا، صوت المواطنين، صوت الثورة. يقرعون الصفائح المعدنية طوال ساعات الليل. يقولون لبلطجية النظام: إن الشباب متيقظ، إن الشباب منتظر، صوت مشجع حافز حاشد يقول نحن هنا نحن هنا نحن لا نُهزَم..

 

التعليقات