أساتذة صغار - صحافة عربية - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 3:59 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أساتذة صغار

نشر فى : الأحد 28 مايو 2017 - 9:40 م | آخر تحديث : الأحد 28 مايو 2017 - 9:40 م
لم أعرف أبدًا أن مستقبل اللغة العربية لم يعد بين أهلها إلا حين دخلت عالم تقديم دروس خصوصية لتلاميذ كثر، بدءًا بابنى إلى تلاميذ أجانب من بلدان مختلفة.
درس اللغة العربية كان جحيمًا، يعيشه الأولاد وكأنهم يدخلون فجأة زمنًا غير زمنهم، زمن قديم ورث، يشبه الأطلال التى لا تعنيهم فى شىء.
«قفا نبك...» قلت وأنا أبدأ بقراءة قصيدة إمرئ القيس الشهيرة فقاطعتنى تلميذتى: «لماذا نبكى؟»، وهو نفسه السؤال تقريبًا، تطرحه بطرق مختلفة كلما بدأنا نصًا باللغة العربية، «مات أمين..»، «ضاعت سلمى.. بكى الطفل الأعرج..»، نصوص من العصر الجاهلى إلى عصر مخائيل نعيمة وجبران خليل جبران، كلها نحيب وبكاء وفقر وعوز وأمراض وصفات بشعة تقزز الطفل وأحداث تتعب نفسيته.
لا أدرى إن كنت معلمة سيئة أم جيدة، ولكننى أصبحت أزور المكتبات وأقتنى كتب أطفال مترجمة، أتصفح القصص وأقرأ مختصراتها وبعضًا منها حتى أجد ما يفتح شهيتهم للقراءة.
حتى مسلسل ريمى الذى عشقته حين كنت طفلة، أحزن تلميذتى الأميركية التونسية، فلم تستسغه، وقد بذلت جهدًا كبيرًا لإحضاره لها لتسمع اللغة العربية الجميلة بصوت الفنان الكبير وحيد جلال وهو يروى واحدة من أجمل قصص الأدب العالمى، وأصوات أخرى كلها فى غاية الجمال وهى تؤدى أدوار أشهر روايات هيكتور مالو.
إن كنا نحن فى حقبة زمنية ماضية نتفاعل مع البؤس لأنه جزء من حياتنا اليومية، فإن أطفال اليوم يعيشون ظروفًا أفضل، ولم تعد «بائعة الكبريت» تثير تعاطفهم بل نفورهم، ولا «كوزيت» فيكتور هيغو تجذب اهتمامهم، ولا بطولات المتنبى، ولا لغة الشعر القديم.!
نعم حيرة ما بعدها حيرة، ماذا أقدم لتلاميذ كرهوا مقرراتهم المدرسية بسبب كمية البؤس الموجودة فى نصوصهم؟ مع كمية اللامنطق التى تبنى عليه قصصهم؟
الحل ليس سحريًا ولكنه جاء تباعًا حينما احتككت أكثر بتلاميذى الأجانب، ذلك أن لغتهم الأم أجنبية تمامًا، وقد وجب على أن أحببهم فى شخصى أولًا وفى اللغة ثانيًا لنمشى مشوار تلقين اللغة سويًا دون رفض وتعنت وسخرية مما أقدمه.
الذى اقترحته أخيرًا هو أن يقرأوا كتابًا أحضره لهم، ويقرأون لى كتابًا بلغتهم ويشرحونه لى بالعربية لأفهم، بدا الأمر كلعبة أولًا، لنرى أى القصص أفضل، ثم تطور ليصبح تنافسًا عجيبًا بينى وبينهم، بالمقابل أدركت أن الأولاد الأجانب جاءوا من بيئات أوروبية وأميركية وآسيوية مختلفة عن ثقافتنا لكنها ثرية جدًا بأفكار لم نعرفها داخل عالمنا المغلق الذى اعتقدنا لدهر أنه الأفضل والمفضل فى كل شىء.
لم يعد درس اللغة العربية درسًا ثقيلًا بل لعبة تقوم على اللغة وسرد الحكايات، والحدث الطريف ليس هنا، بل فى علاقتى مع تلاميذى الذين أشتاقهم وأتحمس لزيارتهم لأنهم فى الحقيقة تحولوا إلى أساتذتى الصغار ويوميًا أتعلم منهم أشياء جديدة وكلمات جديدة، لكن المكسب الكبير الذى خرجت به من عندهم هو كم الفرح والمحبة اللذان يملآن قلبى.. وكيف غيروا رأيى فى التعليم الذى اعتقدت لزمن طويل أنه مهنة شاقة فإذا به مهنة ممتعة حين تمردت على قواعده القديمة ومارسته بقواعدى وبقواعد أساتذتى الصغار.

الرياض ــ السعودية
فضيلة الفاروق

 

التعليقات