رؤية بديلة للعدالة الاجتماعية - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 5:12 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رؤية بديلة للعدالة الاجتماعية

نشر فى : الإثنين 28 يوليه 2014 - 8:50 ص | آخر تحديث : الإثنين 28 يوليه 2014 - 8:50 ص

رصدنا فى مقالات سابقة عددا من التغييرات التى تواجه التنمية، بعضها يخص التطورات التى يمر بها العالم حاليا، والبعض الآخر يتعلق بما تتعرض له مصر من تغييرات استدعت ثورتين يرجى أن يفضيا إلى تحقيق مقومات الكرامة الإنسانية، بأركانها العيش والحرية والعدالة الاجتماعية.وقد أوضحنا أن الحوار الدائر حول هذه الأخيرة لا يخرج عن كونه بحثا عن عدالة اقتصادية.

وحتى يمكن تناول الجانب الاجتماعى فى معرض الحديث عن الشأن الاقتصادى، علينا أن نربط بينهما من خلال معالجة شئون المجتمع الإنسانى بأبعاده المختلفة التى تشمل أيضا الأبعاد السياسية والأمنية، خاصة لكونهما الشاغل الأساسى حاليا للمجتمع المصرى ولمجتمعات عربية تشاركنا تداعيات «الربيع العربى»، مع أخذ التطورات العالمية فى الحسبان، لأنها لعبت دورا مهما فيما تعرضنا له، وما سيواجهنا مستقبلا.

وبدءا من هذه الأخيرة، نذكّر بما لاحظناه سابقا من انتقال الأسس التى تحكم الحياة البشرية إلى طور ثالث، تحكمه العوامل الإنسانية فتراجع دور العوامل المادية. وصحب ذلك أمران علينا أن نأخذهما فى الاعتبار لأنهما أحدثا تغييرات جوهرية فى تنظيم البنيان الاجتماعى: الأول أن المعرفة أصبحت العنصر المتحكم فى كل جوانب الحياة بما فيها الاقتصادى، فأصبحت تسيطر على رأس المال، بشقيه المادى والمالى. فلم تعد مكانة الإنسان فى المجتمع ترتبط بما تراكم لديه فى الماضى من مال أو معرفة، بل بما يضيفه نتيجة إبداع يغذيهما فى المستقبل. ولم تعد العبرة بمقدار ما يتمكن الفرد من أخذه، بل بقدر عطائه. الثانى أن هذا العطاء لا يقتصر على شريحة من المجتمع بل هو متاح لكل أفراد المجتمع، لا فرق بين رأسمالى أو رب عمل أو عامل بأحر أو صاحب مهنة أو حرفة، وأيا كان القطاع الذى يمارس فيه نشاطه، أوليا أو ثانويا أو ثالثيا.

•••

يذكر أيضا أن العلوم الإنسانية رغم أن محورها كيان لا يقبل التجزئة هو الإنسان، فإن خصوصية كل منها فرضت على الباحثين أن يركزوا على أحد جوانب تصرفه بمعزل عن الباقين مهما كان التداخل بينهم. ففى الاقتصاد يُنظر إلى الإنسان تارة كمستهلك وأخرى كمنتج ثم نضعهما فى مواجهة بعضهما؛ ويُقسم المجتمع إلى أصحاب أعمال وعمال ويتبع ذلك متابعة الصراع بينهما، وهكذا. فتارة نتحرك فى مستوى أفقى يضم أفراد المجتمع المتماثلين فى الموقع، وأخرى نتابعهم على محور رأسى، ثم ننتقل إلى الإطار الاقتصادى الكلى (الماكرو) فيختفى الإنسان وبتحول الحديث إلى علاقات بين متغيرات كالإنتاج والاستهلاك والاستثمار وميزان المدفوعات بشقيه الصادرات والواردات، وما يتعلق بها من سياسات اقتصادية. وتظهر العورات كالفقر والبطالة وتباين مستويات الدخل، ليس فقط داخل كل بلد، بل وبين البلدان لتكشف عن تشوهات فى البنيات الاجتماعية، القطرية والإقليمية والدولية. فيستدعى البعد الاجتماعى ليقوم بدور العطار الذى لا يستطيع إصلاح ما أفسده إغفاله رغم كونه هو الأساس وهو الأبقى. وهكذا أسفرت تجربة خمسين عاما (منذ نهاية الحرب العالمية وقيام الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية فى 1945) من جهود قطرية ودولية لتعظيم النمو الاقتصادى إلى الدعوة للحديث عن تنمية ببعديها الاقتصادى والاجتماعى. فكانت قمة كوبنهاجن الاجتماعية 1995 التى ركزت على معالجة الفقر والعمالة المنتجة والتماسك الاجتماعى. واستمر الإصرار على الليبرالية الجديدة كصرخة النزع الأخير للمنهج المادى. فكان لابد من التأكيد على معالجة هذه الآفات فى قمة الألفية.

كان من المحتم إذن العودة إلى الجوهر وهو الإنسان والتعامل معه من منظور شبكى لا يقتصر على بعدين أفقى ورأسى، بل يضم تقاطعات، تحكمها متطلباته الحياتية ككائن اجتماعى، يصقل سلوكياته بثقافة تتفاعل مع اتساع مداركه، خاصة مع احتلال المعرفة المتجددة موقع الصدارة. ويعنى هذا أن نقطة البدء تكون هى تعزيز العدالة الاجتماعية بالعمل الدائب على إكساب كل فرد، بالإضافة إلى استيعاب ما تجمّع من معارف فى مختلف دروب الحياة، القدرة على الإضافة إليها، من المهد إلى اللحد. هذه القدرات هى الكفيلة بضمان الكفاءة الاجتماعية، ونعنى بها تشييد صرح اجتماعى يتمكن به المجتمع من الإضافة إلى التقدم الاقتصادى، ارتقاء اجتماعيا ينهض بكل نواحى الحياة ويسهم فى تعزيز التماسك الاجتماعى. ونلاحظ فى هذا التشخيص أن الحركة تأخذ الاتجاه العكسى لما اتصف به النشاط الاقتصادى الذى ينطلق من اعتبارات الكفاءة الصماء فتستدعى العدالة الاقتصادية لتصحيح تداعياته غير المنصفة. وتتلخص المقارنة بين المنهجين فى الآتى: يتمحور المنهج الاقتصادى المادى حول بنيان يضم وحدات إنتاجية تحول مدخلات مادية وبشرية إلى مخرجات بعضها يعاد استخدامه كمدخل لدورة إنتاجية جديدة، أو كإضافة إلى طاقات رأسمالية، بينما يتحتم على الإنسان أن يتهيأ ليكون نشاطه مدخلا مرغوبا، وأن يختار من المخرجات ما يمثل مستوى معيشة فى الحدود التى تسمح بها إيراداته، وهنا تتجلى نواحى القصور التى تستدعى اللجوء للعدالة الاقتصادية.

•••

أما المنهج الإنسانى الاجتماعى، فإنه يتكون من شبكة من المفردات المجتمعية تتفاعل معا لتحول ما يمده بها الأفراد، كل بقدر حظه من القدرة على العطاء المعرفى، إلى نواتج تحقق له نوعية حياة تسمح له بالإسهام فى دورة اجتماعية جديدة، هى بالضرورة دائمة الارتقاء وإلا أصيب المجتمع بالجمود بل وربما الانحطاط. وحتى يتم هذا لابد من عمل دءوب لتنظيف الموروث الثقافى وتوظيفه فى مواصلة الارتقاء. وهكذا فإن هذا المنهج يختلف عما عاشته البشرية حتى الآن من زاويتين جوهريتين: الأولى أنه لا ينقاد انقيادا أعمى إلى الالتزام بدعوى كفاءة مقصورة كتلك التى يعانى منها البعد الاقتصادى المجرد، بل تنطلق من تجديد ثقافى متواصل يوفر عدالة اجتماعية تعزز تماسك المجتمع وتدعم الروابط بين أعضائه ليكتسب كفاءة تضمن له الاستمرار، أما الثانية، وربما الأهم أنه يتخلص من صفة مستمدة من العلوم المادية وهى اعتبار التوازن دالا على ارتضاء جميع الأطراف لنتائجه فتتوقف عن الحركة، والبحث عن دوافع أخرى لإحداث تقدم (أو ما شاع تسميته بتنمية development تمييزا عن النمو growth الذى يرتبط بالكم ويحكمه عادة النمو السكانى) لتكون قضية الارتقاء هى المحور الأساسى. من أجل ذلك كانت ثورات الشباب منذ 1968 (التى أشرنا إليها فى 2/5) ومنها ثورة 25 يناير، هى ثورات للمستقبل لا لتصحيح واقع معيب، ثم ثورة 30 يونيو التى رفضت السير ضد عجلة التقدم، والتستر وراء ماض لا سند لبقائه بالمخالفة لحكم الآية الكريمة «علم الإنسان ما لم يعلم»، وهى أمر إلهى بالتجديد المعرفى المستمر. ولابد لهذا الارتقاء من اكتمال الكفاءة المجتمعية، بكفاءة سياسية ترعاها الديمقراطية، وكفاءة إدارية تكفل تحقيق السلطة التنفيذية لمتطلبات التغيير.

ويبقى الحديث عن الانعكاس على علاقات الفرد والمجتمع والدولة، وله مجال آخر.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات