أين ذهب المترو؟ - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 8:15 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أين ذهب المترو؟

نشر فى : السبت 28 سبتمبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : السبت 28 سبتمبر 2013 - 8:00 ص

حين عبرت الشريط فى تلك الليلة، تيقنت أن المترو اختفى. لويت عنقى ذات اليمين وذات اليسار قبل العبور إلى الجانب الآخر، فلم ألمح عرباته المتأنية المتأرجحة، ولم أجد المتسكعين على الرصيف فى انتظار الوصول.

تعمدت فى الأيام التالية، وكلما خرجت من منزلى سائرة على الأقدام، أن أمر من الشوارع الرئيسية التى تحوى خطوط المترو، كنت أتباطأ فى السير عند المقاعد الخشبية التى تميز محطات توقفه، وأدقق النظر عسى أن أفهم سر الغياب المفاجئ، لكن عبثا كانت محاولاتى. جلست فى إحدى المرات لساعة أو ما يزيد على المحطة المهجورة، وفى يدى كتاب أقرأه، وبالقرب من موقعى البليد، استلقت قطة شبه بيضاء بين القضبان، غير عابئة بوجودى، ولا باحتمالات الموت دهسا.

سألت عددا من الجيران فلم يبدُ أن أحدا منهم انتبه لهذا الاختفاء، لم يكن الأمر فى الحقيقة ذا بال؛ اكتفى البعض بإبداء التعجب، وحاول آخرون إجابة السؤال ثم لم تلبث الهمة والحماسة أن فترت، وانشغل كلٌ بما هو أجدى لديه وأهم.  ضاق هامش رواد المترو حتى كاد يقتصر على طلاب المدارس وأحيانا الجامعات وقلة من الموظفين، رغم كونه وسيلة مريحة للانتقال إذ ما قيس بالحافلات العامة، التى يعدو وراءها المارة صعودا وهبوطا، والتى يكاد ركابها يتساقطون من النوافذ والأبواب مع كل حركة بهلوانية يقوم بها السائقون، بل لا أخالنى مبالغة حين أزعم أن المترو قد يصبح أكثر راحة وإنجازا من السيارة الخاصة، إذ ما طاله شيء من التطوير والاعتناء. 

●●●

جاء المترو إلى مصر الجديدة فى بدايات القرن العشرين مع البارون إمبان، وصمد طيلة عقود لعوامل التعرية كلها، ولمحاولات التشويه؛ المتعمد منها والناتج عن الجهل وانحدار الذائقة الجمالية. صارت حركته بطيئة متمهلة، وعجزت أبوابه عن الانغلاق، كذا استقرت نوافذه على أوضاع ثابتة لا تحيد عنها، ثم بهتت ألوانه وتلاشت بفعل الحرارة وأشعة الشمس القاصمة، إلى أن خضع لعملية طلاء جعلته فى رأى الكثيرين أسوأ مما كان عليه خلال عهود سابقة.

قررت ذات صباح وبعد أن انشغلت بالأمر، أن أبحث عن المترو؛ وعن الموظفين المسئولين عن تشغيله، والكمسارى ببذلته  التقليدية الكالحة، وحامل العصا الطويلة التى تستخدم لتوصيل كابلات الكهرباء بالعربات. عن الباعة الجائلين الذين يصعدون على درجاته متدثرين بكم مهول من البضائع الخفيفة الملونة، التى تثير البهجة ولو لم يشتر منها الركاب. قال لى ناظر المحطة مبتسما وفى يده كوب الشاى الأبدىّ، إن المترو كان بالفعل غائبا لشهرين ماضيين، بسبب الاضطرابات التى شهدتها منطقتى مصر الجديدة وميدان الألف مسكن، قال أيضا إن المترو عاد سالما إلى قضبانه منذ فترة قصيرة وانتظمت حركته. تشككت فى الأمر، لكن المترو وصل بالفعل بعربتيه الخضراوتين أثناء الحديث، واستقر أمامنا، وقد لاح رحبا واسعا على غير العادة. كانت مقاعده الجلدية الحمراء خاوية، لا أحد بين جنباته سوى السائق الوحيد.

●●●

لم يكن اختفاء المترو ثم ظهوره مرة أخرى دافعا للدهشة، بقدر ما جاءت الملاحظات المتأخرة. تساءلت كثيرا كيف لى وأنا أقطن بالقرب منه، ألا ألحظ هذا الغياب سوى بعد شهور، وكيف لآخرين ألا يدركوا غيابه مطلقا؟. تساءلت أيضا إن كان من الممكن أن تختفى من الحياة أشياءٌ أكبر حجما أو أعمق تأثيرا، دون أن نلحظها فى غمرة انشغالنا بأعباء الحياة اليومية، تلك التى تضاعفت حتى أغرقتنا فيها؟.  أشياء قيمة لا حصر لها صارت تسقط من الذاكرة ببساطة متناهية، كما لو لم توجد من قبل، ولم تحفر لها مكانا فى أيامنا.

تذكرت اللقطات العابرة التى علقت بذهنى أثناء رحلة البحث القصيرة عن المترو؛ تلك القطط التى راحت تلعب فوق القضبان آمنة، تتقافز هنا وهناك، تداعب الحجارة الصغيرة، تلعق جسمها بانهماك وتحك فراءها فى الحواف.  أدركت القطط بغريزتها وحساسيتها المفرطة لمحيطها، اعتكاف المترو وخلو مجراه قبل أن نفعل نحن؛ المواطنون التائهون فى دوامات الحاضر، والمستسلمون لمقاديره الغامضة، دون مساءلة أو مشاحنة أو حتى استياء.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات