التعامل مع استراتيجية التنمية حتى منتصف السبعينيات - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 5:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التعامل مع استراتيجية التنمية حتى منتصف السبعينيات

نشر فى : الإثنين 28 سبتمبر 2015 - 8:30 ص | آخر تحديث : الإثنين 28 سبتمبر 2015 - 8:30 ص

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية فى 1945 سعت الدول حديثة الاستقلال إلى الخروج من مستنقع التخلف الذى فرضه عليها الاستعمار. ولعل أول استخدام لكلمة خطة (خارج نطاق المعسكر الاشتراكى) كان فيما طرحته بريطانيا من إطار لاحتواء دول الشرق الأقصى أطلقت عليه «خطة كولمبو». إلا أن الدول المعنية قررت أن تختار لنفسها صيغا قومية تصون استقلالها وتعزز جهودها التنموية. وتأثرت الرؤى الوطنية بالتكوين الاجتماعى. ففى الهند طرحت الطبقة الرأسمالية صيغة تناسب مصلحتها فى تثبيت أقدامها فى المواقع التى أخلاها الاستعمار لتستمد منه قوة تضمن له استمرار مكاسبه على حساب نصيب عادل للقوى العاملة، بينما فضلت هذه الأخيرة اعتماد فلسفة اشتراكية تلائم تواضع المستوى الاقتصادى السائد بعيدا عن الشروط الأساسية لاشتراكية تبنى على مستوى بلغت فيه الرأسمالية الذروة فازدادت شراسة لخوفها من التراجع بفقدها الأخضر واليابس. وقاد جواهر لال نهرو هذا التوجه. وجرى خلال ذلك «تخطيط هيكلى»، إلى أن قام نظام يمارس التخطيط الوظيفى فى ظل استراتيجية تنموية قائمة بذاتها، تتوافق مع البعدين السياسى والأمنى.

وسلكت ثورة يوليو هذا الطريق فى تخطيطها التنموى فيما بين 1952 و1962 إلى أن أرست أسس مجتمع الكفاية والعدل، فانتقلت إلى مرحلة استكمال البنيان الاشتراكى، فأفضت مضاجع المعسكر الرأسمالى بزعامة الولايات المتحدة، لأن نجاحه فى دعم الاستقلال وتعزيز التنمية طرح نموذجا تقتدى به الدول حديثة الاستقلال خاصة فى الوطن العربى وأفريقيا، فكانت إثارتها لحرب 1967 التى وصفتها فى محاضرة لى عن اقتصاديات الحرب فى 8 يونيو بأنها ليست حربا لانتزاع الأرض بل للقضاء على نمط مستقل للتنمية.

***
وعندما كلفت بحقيبة التخطيط فى مارس 1975 كانت الدولة قد تكبدت خسائر هائلة إلى أن حققت انتصارا عسكريا لا سابقة له فى أكتوبر 1973. ولن أقف طويلا عند تعداد المشكلات والتدهور الذى تعرض له جهاز التخطيط، مكتفيا بالقول إن أعباء الحرب أصابت التخطيط وجهازه بهزال خطير، وانشغلت الجهود بتعويض الجهاز الإنتاجى، لاسيما القطاع العام عن تهالك طاقاته الإنتاجية، ناهيك عن الخسائر العمرانية والبشرية واستمرار التفاوض لاسترداد الأراضى المحتلة. ثم طرح السادات «ورقه أكتوبر» التى ساهم فى إعدادها عبدالعزيز حجازى وإسماعيل صبرى لاستفتاء شعبى فى إبريل 1974 وحددت معالم ما أسمته استراتيجية حضارية شاملة، استخلصت منها مسارا نحو غايات للعام 2000 تعيد الدولة إلى موقعها الحضارى المناسب. وكان لابد من الالتزام بها عند إعداد الخطة الخمسية 76ــ1980 التى حاولت فيها الخروج من إطار خطة 1974 التى لم تتجاوز عرض احتياجات العمران واسترداد الطاقات الهالكة، بمفهوم وثيقة تبنى عليها موازنة استثمارية إلى جانب الموازنة العامة الجارية. وحاولت جعل التعامل مع صياغة الخطة مسئولية جماعية تضامنية لا ينفرد به وزير للتخطيط.

وتعتبر الورقة وافية بالغرض. إلا أن ما شابها هو تلاعب السادات بها. فقد تجاهل معالجة القضية الأمنية أس المشكلات، حتى يمرر اتفاقه مع إسرائيل، وهو أمر لا يستقيم مع نشأته العسكرية ومسئوليته القومية. وحرص فى نفس الوقت على تشويه الانفتاح الاقتصادى الذى أكسبته الورقة صفة متميزة، ليفتح منه ثغرة لمن أسماهم الطفيليين، لينطلقوا مع الفئات الدينية المتطرفة فى استكمال القضاء على تحالف قوى الشعب العاملة الذى بدأه بانقلاب 15 مايو 1971.

***
لذلك أعددت مذكرة للعرض على مختلف الجهات مطالبا برأيها حول مختلف قضايا التنمية ليتجاوزوا بنظرتهم الخطوط الضيقة لمجالات عملهم وتصدر الخطة كوثيقة جماعية، تحدد مسئولية تضامنية. وتضمنت تلك المذكرة تساؤلات حول الاستراتيجية بأبعادها القومية والقطاعية، شملت فى جانبها الكلى خمسة موضوعات رئيسية: تطور الهيكل الاقتصادي؛ إمكانات المجتمع؛ موارد المجتمع؛ التناسب بين المستخدم من الموارد، قواعد توزيع العائد. وتفرع عن تلك الموضوعات 18 عنوانا، طرح فيه كل منها الاختيارات البديلة للمفاضلة بينها: وهى: 1) دفعة التنمية؛ 2) النمو المتوازى (المتوازن)؛ 3) التصنيع؛ 4) التبادل الخارجي؛ 5) القطاعات المحلية؛ 6) البحث العلمي؛ 7) الإمكانيات الحضارية؛ 8) إمكانيات التعاون الاقتصادى؛ 9) الموارد البشرية؛ 10) الموارد الطبيعية؛ 11) الموارد المالية؛ 12) التوسع الأفقى والتوسع الرأسى؛ 13) الأسلوب الفنى للإنتاج؛ 14) الهياكل التنظيمية والإدارية؛ 15) القطاعات التنظيمية؛ 16) توزيع وإعادة توزيع الدخل؛ 17) التوزيع الإقليمى؛ 18) التوزيع على الأجيال.

ثم رسمت معالم الخطة المقترحة الخطة طويلة الأجل للعام 2000 والخطة الخمسية 76ــ1980 التى يجرى إعدادها. وتضمنت النظرة بعيدة المدى العناصر التالية: مواجهة التضخم السكانى ــ محدودية الرقعة المعمورة ــ ارتفاع نسب الإعالة ــ محدودية إمكانيات توسيع الإنتاج ــ تزايد الحاجة إلى الاعتماد على الخارج فى تدبير الاحتياجات الغذائية والمواد الأولية ــ ومن ثم ضرورة أن تنمو الصناعة إلى ثمانى أو عشر أضعاف، على أن تكون هذه الصناعة تنافسية ــ تدبير استثمارات إضافية سنويا تقدر بنحو 2000 جنيه لكل من المليون نسمة الجدد ــ تنظيم قوى ومستمر للتدريب والبحوث والدراسات للنهوض بقوة العمل الجديدة لتقوم بالتطوير المطلوب، وتدبير إمكانيات تصدير العمالة الفنية والإدارية للخارج للمعاونة فى تنمية الدول العربية ــ تدبير موارد لترميم شبكة المرافق الأساسية التى استنزفتها الحروب المتتالية وتدبير موارد لمتطلبات التعمير واسترداد الطاقات الإنتاجية المقامة اللازمة لرفع الإنتاج المحلى إلى المستوى الذى كان مقدرا له، والنقد الأجنبى اللازم لتشغيل الطاقات الحالية ــ تعرضت المدخرات إلى انخفاض إلى ما يقرب الصفر فتزايدت احتياجات النقد الأجنبى لتوفير ضرورات الحياة بجانب الاحتياجات الإنتاجية – مواكبة الاستراتيجية لما يجرى فى العالم العربى من تنمية تعميرية واستثمارية بعيدة المدى، سواء بتنسيق نواحى التخصص التصديرى، أو إعداد اليد العاملة المصدرة أو من حيث تحقق متطلبات تدفق رءوس الأموال العربية. وفى نفس الوقت العناية بالتنمية الاجتماعية والعلاقات الإنسانية والتماسك الاجتماعى من أجل ضمان متطلبات التنمية بوجه عام، ومواجهة الأنماط السائدة فى الدول المجاورة الغنية بوجه خاص ــ استيعاب التكنولوجيا المتطورة والتعامل المتزايد فى الأسواق العالمية من متابعة تطور المتغيرات الدولية فى المحيط الاقتصادى، حيث برزت بصورة واضحة مشاكل عالمية تجرى دراسة الحلول لها، مثل مشاكل السكان والبيئة وأزمات الغذاء والطاقة والنظام النقدى.

***
وفى ضوء ما تقدم طرحت ثلاث مراحل لإقامة ما سمى «مجتمع المنتجين»: الأولى للمدى القريب تعنى بإصلاح الخلل فى البنيان الاقتصادى؛ والثانية للمدى المتوسط يتم فيها رفع مستوى الاستثمار تدريجيا بما يواجه متطلبات الانتشار العمرانى واستيعاب الزيادات السنوية فى قوة العمل والتى تصل 300 ألف، تتصاعد إلى نحو 400 ألف، مع استيعاب الفوائض المتراكمة من العمالة؛ يتم فى الثالثة التحول إلى مجتمع تصديرى خلاق معنويا وماديا، ويأخذ مكانته الدولية الحضارية نافضا عنه صفات المجتمع الاستهلاكى الاستيرادى الناقل لأنماط إنتاج واستهلاك وفكر مستوردة. وعندها يرقى بمستويات التشغيل الكامل للعمالة إلى مستويات المعرفة والخبرة والإنتاجية التى تقارن بالمستويات المتوسطة السائدة فى أوروبا.

إلا أن التجاوب كان شديد التواضع، بينما استنفدت جهودى فى مواجهة قيود منها ما كان قائما من البداية، وهو قضية الدعم، ومنها ما استجد خلال العمل، مثل مطالبة عثمان أحمد عثمان (مستشار السادات وصهره فيما بعد) بإنشاء جهاز للتعمير فى صيغة دولة داخل الدولة، يُعهد إليه بالأموال التى يطلبها ويختار وينفذ مشروعات خارج رقابة أجهزة الدولة وهو ما رفضته كتابة إلى وزير شئون مجلس الوزراء فؤاد شريف، فانتهى به الأمر إلى تبرير رفضه الانضمام إلى وزارة ممدوح سالم بعد انتخابات أكتوبر 1976 بموقفى منه، وهو شرف لا أدعيه. وأدى تدقيقى فى معالجة المشكلة إلى قيام إبراهيم حلمى الذى كان يعمل مستشارا لرئيس الوزراء بعد تركه الوزارة لى (وكنت أحارَب بسبب علاقتى به من مراكز القوى)، برفع مذكرة اتهم فيها التخطيط بأنه يعوق مسار الإصلاح الاقتصادى لتجاهله التوجيهات العليا، لرئيس الدولة ورئيس الوزراء، وهو شرف آخر ولكنى أدعيه. وأخيرا بقى تقديم مشروع الخطة هو السلاح الذى أمسك به فى مواجهة ما يسمى ببرنامج الإصلاح الاقتصادى إلى أن تم إقصائى وصمت حديث الاستراتيجية.

 

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات