دراما السياسة - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دراما السياسة

نشر فى : السبت 28 نوفمبر 2015 - 11:10 م | آخر تحديث : السبت 28 نوفمبر 2015 - 11:10 م

ظل وجهها الأبيض الشاحب ثابتا، لا يرتسم الشقاء على قسماته الدقيقة، وهى تروى كيف فقدت زوجها قبل نحو ثلاث سنوات، بعد أن عاشا بمدينة حلب السورية فى هناء.

الهدوء الذى شاب حديثها يحرج السامع، لا يعرف كيف يتصرف وهو يصغى لقصة اختطاف الزوج على أيدى مجهولين، ثم موته فى ظروف غامضة بعدها بقليل، تاركا رفيقة دربه وهى حامل فى طفلهما الثالث. هدوء من يصبر على الابتلاء أو من لم يعد لديه قدرة على الألم، لكنه هدوء واثق ومطمئن، يطل من عينين تشع منهما طيبة الأمهات اللائى وضعن كل مخزون القوة لديهن لضمان استمرار حياة الأبناء.
مع بداية الاشتباكات فى حلب، خرجت العائلة الميسورة إلى الأردن، المكان الأقرب الذى يمكن من خلاله أن يراقب الزوج أعماله فى الداخل السورى. وعندما ترامى إلى سمعه أن بعض العناصر التابعة للنظام قد تستولى على معمله وأملاكه، توجه إلى حلب لكى يباشر ما يحدث، ولم يعد. اختفى، ثم اتصل بذويه من يطالبهم بتسعين مليون ليرة سورية، وعندما حاول هؤلاء تدبير المبلغ بأى طريقة ودفع الفدية التى لم تكن فى مقدورهم، قيل لهم إنه قد مات وإن عليهم دفع 12 ألف دولار إذا ما أرادوا تسلم الجثة، فاستجابوا. فى الحالات المشابهة يرجح البعض أن النظام كان وراء الاختفاء أو بالأحرى بعض الميليشيات التابعة له، والبعض الآخر يكيل التهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو الفصائل المسلحة المختلفة المحسوبة على المعارضة، فيما يعرف بالخطف والخطف المضاد لمبادلة الضحايا بآخرين.
***
تفاصيل الألم والابتزاز واحدة فى حلب، فى الرقة، فى دير الزور، فى حمص، فى اللاذقية.. مصير مجهول وأسئلة بلا أجوبة، فوفقا لتقرير أصدرته أخيرا منظمة العفو الدولية بعنوان «ما بين السجن والقبر: حالات الاختفاء القسرى فى سوريا» هناك 65 ألفا و116 حالة اختفاء قسرى تم توثيقها ما بين مارس 2011 وأغسطس 2015، من بينهم 58 ألفا و148 مدنيا. وبالطبع تبرز سوق سوداء من الخداع والحيل والرشاوى والوساطات على هامش هذه الممارسات، تستغل رغبة الأهل فى التعرف على مصير أقاربهم المختطفين فى بلد، بل فى منطقة بأسرها، أصبح ما يحدث فيها يشبه دراما الأفلام: قتل وخطف وملثمين يشبهون النينجا وأسلحة ثقيلة وطائرات وجواسيس وقنابل فراغية وأحزمة ناسفة وسيارات لا تحمل أرقاما تدخل إلى المدن حاملة شبيحة، فنحن نشهد جرائم ضد أبرياء ذنبهم الوحيد أنهم خلقوا فى هذا المكان، ما يكسب الأزمة السياسية بعدا دراميا كنا نعتبره فى السابق «أفلاما مبالغا فيها» لاستثارة عطف المشاهد، فإذا بها حقيقة.
***
المشهد نفسه لطيار ينزل بالبراشوت بعد أن تم استهداف طائرته فى الجو وانفجارها، من خلال فيلم المخرج ستيفن سبيلبرج الأخير «جسر الجواسيس»، الذى يدور فى نهاية الخمسينيات، إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى السابق، تكرر بعدها بيوم أو يومين بعد تحطم الطائرة الروسية على الحدود التركية ــ الروسية. انتقل المشهد من دور العرض وشاشات السينما إلى شاشات التليفزيون والقنوات الإخبارية. تابعناه كجزء من واقع يحاصرنا ويضيق الدائرة من حولنا، لحظة تلو أخرى. لم تعد المقايضة على الضحايا غريبة علينا. ولم أشعر أننا بعيدون عن مشهد آخر، جاء فى الفيلم نفسه، يجسم بناء سور برلين الذى يفصل ألمانيا الشرقية عن الغربية، والعديد من الأهالى وهم يحاولون تسلقه فيلقون حتفهم رميا بالرصاص. عالم الجواسيس وتقسيم الحدود ومصالح الدول وألاعيب أجهزة المخابرات التى لا تأبه بإنسانية المواطنين كما جاء فى شريط سبيلبرج صار مألوفا لدينا. يروى الفيلم، المأخوذ عن واقعة حقيقية، تفاصيل مفاوضات مبادلة جاسوس روسى بآخر أمريكى. ويكرر دائما الأول جملة واحدة بهدوء حين يسأله محاميه إذا كان الخوف أو القلق لا يعتريه أبدا، فيقول نافيا: «هل سيساعد ذلك فى شىء أو يغير الوضع؟». ربما هو الهدوء نفسه الذى تتحلى به زوجة السورى المفقود، طبعا مع الفارق بين الحالتين. هدوء قبول الواقع حتى لو كان مؤلما أو لا يصدقه عقل. هدوء الرغبة فى الاستمرار، حتى لو خرجنا من فيلم لندخل فى كابوس.

التعليقات