نبيل المالح - كمال رمزي - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 1:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نبيل المالح

نشر فى : الإثنين 29 فبراير 2016 - 8:45 ص | آخر تحديث : الإثنين 29 فبراير 2016 - 8:45 ص

دائما، فى عجلة من أمره، لا أراه إلا متسارع الخطى، يتمتع بقدر كبير من الحيوية والحماس، يتحدث بانتشاء عن مشاريعه القادمة، يحقق منها الكثير، يتبقى الأكثر من دون تنفيذ، لأسباب موضوعية، خارجة عن إرادته. التقنية فى مهرجان عواصم عدة، حاملا الشام فى قلبه الكبير الذى يتسع لمحبة الأوطان العربية، بناسها الطيبين، المنسيين، تماما كأبطاله الذين يبنون الحياة، أملا فى غد مشرق لا يجئ. مع هذا، سواء هو أو هم، يظل الرجاء نابضا فى قلوبهم. دائما، يشعرنى أنه شاب فى مقتبل العمر، أو أواسطه، إلى أن فوجئت برحيله عن عمر يناهز الثمانين عاما.

نبيل المالح، ابن دمشق، المولود عام ١٩٣٨، سافر إلى براج عام ١٩٥٨، درس أصول الفن السابع فى «جامعة السينما والتليفزيون»، ذات السمعة الطيبة، نال درجة الماجستير، عمل لفترة فى التليفزيون التشيكى، قبل وبعد عودته إلى سوريا، ملتحقا بالمؤسسة العامة للسينما، منغمسا فى الوقائع والأحداث السياسية، حيث سيظل دائما، ضمن كتيبة اليسار الوطنى، القومى.. اصطدم كثيرا مع السلطة، أصدر البيانات، دخل السجن، أثبت حضوره الفنى بقائمة أفلامه الطويلة والقصيرة، الروائية والتسجيلية، نال عن بعضها جوائز ذات شأن، أصبح اسما مرموقا على خارطة السينما العربية، السورية.

بدأ المالح مشواره الإبداعى بإخراج أحد أجزاء ثلاثية «رجال تحت الشمس»، بعنوان «مخاض» ١٩٧٠، ثم حقق «الفهد» ١٩٧٢، المأخوذ عن قصة الروائى السورى، حيدر حيدر. توالت أعماله التى كتب سيناريوهاتها، سواء اعتمدت على نصوص أدبية، مثل «بقايا صور» ١٩٧٣ التى كتبها حنا مينا، أو التى من تأليفه، جملة وتفصيلا، مثل «السيد التقدمى» ١٩٧٤، «العندليب» ١٩٧٥، وأجمل أفلامه «الكومبارس» ١٩٩٣، الفائز بجائزة الإخراج فى مهرجان القاهرة السينمائى، وحاز بطلاه، بسام كوسا، وسمر سامى، على جائزتى التمثيل فى مهرجان السينما العربية بباريس، ونال جائزة أفضل سيناريو من مهرجان فالنسيا.

«الكومبارس»، من النماذج الرفيعة فى السينما العربية، وليس السورية فقط: أحداثه القليلة، تدور فى مكان واحد. شقة صغيرة متواضعة، متهالكة الأثاث، استعارها «البطل» للاختلاء بـ«البطلة»، لمدة ساعتين، هما الزمن الذى يستغرقه عرض الفيلم.. من هذا المكان المحدود، المحاصر، ذورك بعمق، ووعى، ما يدور فى العالم الخارجى، وخلال الساعتين، لا نتعرف إلى حاضر البطلين فحسب، بل نستوعب ماضيهما، ونكاد نتوقع ما ينتظرهما، مستقبلا.

«سالم»، بطل الفيلم، بأداء المتمكن «بسام كوسا»، مواطن عادى، يعمل فى محطة بنزين، يمسح بهمة زجاج السيارات.. فى المساء، على خشبة مسرح، يستمع لتوجيهات المخرج ــ نبيل المالح نفسه ــ الذى يخطره بأن عليه الدخول من أحد الكواليس ليمشى أربع خطوات ثم يقف.. هذا هو كل دوره فى المسرحية.. إنه «كومبارس» غير متكلم، مجرد إكسسوار أو ديكور بشرى.

مع توالى المشاهد، ندرك براعة هذا المدخل، ذلك أن دور المواطن «سالم»، واقعيا، فى الحياة، يتطابق مع أدواره الصامتة على خشبة المسرح، حيث «يموت على حسب الطلب.. بسام كوسا»، النحيل، بعد أن يستمع بملل، لنواهى صديقه، صاحب الشقة، ينتظر قدوم حبيبته، ندى، بأداء ذات الجمال الهادئ، المنكسر، سمر سامى، التى تأتى مذعورة، فعند مدخل الشارع، كما تقول، رآها شقيقها.. حقا، اكتشفت أن الرجل يشبهه فقط، لكن شبح الشقيق لايزال يرعبها.

«سالم»، لا يقل فى اضطرابه الداخلى عنها، فقبل وصولها، جاء رجل قوى ورزيل، أخذ يسأل عن المغنى الضرير، الساكن فى الشقة المجاورة، ويكاد المالح أن يبرز لنا هويته كواحد من مخالب السلطة.. طبعا، الشقة المتربة، بمقاعدها المكسورة الأرجل، بالإضافة للحالة النفسية المتدهورة للحبيبين، أمور جعلتهما يغرقان فى توتر صامت، يتفجر مع كل صوت يصل من العالم الخارجى حتى لو كان مجرد بوق دراجة.

اهتم المالح بالأبعاد الداخلية لبطلته الأرملة، كسيرة الفؤاد، لاتزال فى روحها جذوة من نور ونار، لم تنطفئ بعد. لكن الخوف يكبل أحاسيسها وسلوكها. إنها ــ وهنا تظهر مهارة كاتبة السيناريو ــ لا تريد ممارسة الجنس فى حد ذاته، وكمجرد امرأة محرومة، ولكن تحتاج إلى ما هو أكثر شمولا وعمقا. ترنو إلى بيت تكون هى سيدته. إنها، عندما تجد الفوضى تعم المكان، تشرع، بنشوة، فى ترتيب ما تصل إليه يديها، وبحنان أمومى، ترتق له ثقبا فى قميصه.

لا يفوت مخرجنا، المعارض عن حق، متابعة البذرة التى ألقاها فى البداية، المتمثلة فى زيارة رجل الأمن الكريه.. فها هم، شبيحة الأمن، يجرجرون المغنى الضرير، وحين يحاول بطلنا التدخل، ينال صفعة تجعله يصمت، يغرق تماما داخل ذاته.. تحاول الحبيبة أن تنتسله من حالة الخرس التى أصابته، لكن عبثا.. لا يبقى أمامها إلا أن تلملم شعرها وتخفى جمالها بـ«الإيشارب» الكبير، وتغادر.. ثم يغادر بعدها، لتطل عليه الكاميرا، وهو يذوب بين «الكومبارس» فى الشارع.
بصمات نبيل الملاح، الراحل، لن تغيب عن خارطة السينما العربية.

كمال رمزي كاتب صحفي
التعليقات