رقصة الشيطان - داليا شمس - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 9:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

رقصة الشيطان

نشر فى : الأحد 29 مارس 2015 - 9:55 ص | آخر تحديث : الأحد 29 مارس 2015 - 9:55 ص

صوت البزق كثيف كبيت الشعر... وكأن هناك فى جو القاعة الموسيقية الجديدة بوسط القاهرة ما يشع بكلمات محمود درويش فى قصيدة "الآن... فى المنفى": "قمر فضولى على الأطلال (...) هو، فى وظيفته القديمة، مثل آذار الجديد... أعاد للأشجار أسماء الحنين وأهملك"، فشجن البزق يحمل فى ثناياه حكايات قوميات تاريخية متصارعة وعاطفة بلدان منتكسة يفترسها الألم... سواء أطلقنا عليه بزق أو ساز أو طنبور أو باغملة أو بوزوكى، بحسب تنويعات وتسميات هذه الآلات الشقيقات على اختلافاتها البسيطة فى شرق المتوسط وبلاد البلطيق وآسيا الصغرى. ارتحلت الآلة كثيرا مثل سكان المنطقة، تبلغ السلامات عن بعد. ويذكرنا حتى اسمها كيف تنازعتها الثقافات والهويات: أصلها كردى ومن هنا جاء اسمها ( بزك، ومعناه بالكردية ذو البطن البارز نظرا لشكل صندوق الآلة أو القصعة) ومنها انتشرت التسمية بتصرف فى اليونان وتركيا وألبانيا، بل عرفها السومريون وشاعت عند الكنعانيين الذين سموها القيثارة ثم أخذها اليونانيون عن السوريين، بل اشتق اسمها من الفارسية "بزرق" أى طنبور، بل معناها بالتركية "المكسور أو المخلوع من جذوره"... وهكذا دواليك.

تحدث عنها الفارابى، صاحب "كتاب الموسيقى الكبير" فى القرن العاشر الميلادى، وارتبطت وجدانيا بفلسطين ولبنان والأردن والعراق (لاسيما الغرب) وسوريا (خاصة منطقة الجزيرة). لذا فلعشرات السنين كانت إذاعة دمشق قبل أن تبث برامجها تقوم يوميا بإذاعة شارة موسيقية لا تتجاوز مدتها الخمس دقائق، هذه اللازمة الموسيقية كانت عبارة عن عزف على آلة البزق من تأليف محمد عبدالكريم، وهو عملاق موسيقى من حمص ساهم فى تأسيس إذاعة دمشق، كما ساهم منذ ثلاثينيات القرن المنصرم فى تأسيس إذاعتى القدس والشرق الأدنى، وترأسهما خلال وجوده بفلسطين لفترة من الزمن، بل وضع لإذاعة الشرق الأدنى فى يافا شارتها الموسيقية... وكانت بالطبع عزفا على البزق، الآلة التى لقب بأميرها بمقتضى فرمان رسمى حصل عليه من فيصل ملك العراق، وذلك حتى توفاه الله فقيرا فى نهاية الثمانينيات، تاركا لنا ولمن سيأتى بعدنا واحدة من أسرع وأصعب معزوفات البزق وهى "رقصة الشيطان".

•••

بلاد البزق ترقص جميعها هذه الرقصة الأخيرة، والقمر الفضولى يقف على الأطلال ليعيد للأشجار أسماء الحنين... أشجار المشمش والتوت التى يصنع البزق أحيانا من أخشابها لأنها ذات تردد عالٍ... والألحان دوما مفعمة بالحنين كتلك التى عرف بها قديما البدو والغجر أو تلك التى عزفها يونانيو الشتات فى تركيا، خاصة فى محيط مدينة إزمير منذ العام 1910و حتى ترحيلهم إلى اليونان بعد معاهدة لوزان الموقعة فى 1922ــ1923. كانت موسيقاهم تعبيرا عن المنفى والتهميش الذى عانوا منه فى تركيا... مزيج من ثقافات الأكراد واليونان والأرمن المجتمعين فى الأناضول، والتى سينتج عنها فيما بعد أغانى فلكلورية تصاحبها آلة البوزوكى أو البزق، تعرف باسم الريبتيكو (repetiko ).

لم يكن أتاتورك يرغب فى وجودهم على شاطئ البحر الأسود، وعندما وصلوا إلى الضفة الأخرى فى اليونان كانت النظرة إليهم أيضا متدنية، بل اعتبر بعض أهل البلاد الأصليين موسيقاهم ضد القومية اليونانية وأرادوا منع البزق "آلة اللاجئين" الوافدة إليهم من تركيا... غزو ثقافى قادم من آسيا الصغرى، ارتبط بأوساط الجريمة والفقر، هكذا ظلت النظرة للبزق فى اليونان حتى العام 1960، بعدها أصبح مقبولا ثقافيا وتحول إلى رمز من رموز الدولة العريقة، يرقص على أنغامه الناس هنا وهناك للتخفيف من حدة الأزمات، وخرج من دائرة التهميش... أخذ البزق يطور من نفسه أو بالأحرى طوره أصحابه الذين حاولوا التأقلم على مجريات الأمور.

•••

يرتفع صوت البزق كثيفا كبيت الشعر. يحمل إلينا من بعيد صورة الرسام المصرى الراحل حسين بيكار وقد كان عازفا بارعا للبزق والطنبور والعود، من أصل قبرصى ــ تركى. صورة بيكار العازف الرزين التى حفرت فى المخيلة تختلف كثيرا عن ملامح الشاب العشرينى بشعره الطويل المجعد، عبدالله أبو ذكرى، وقد أغمض عينيه وأخذ يعزف الساز فى الفضاء الموسيقى "روم" بجاردن سيتى، وجلس الناس حوله على الأرض. نادرا ما يعزف المصريون البزق أو الساز، لكن أظننا سنتذكر هذا الاسم طويلا، فهو الذى اصطحبنا فى هذه الرحلة الطويلة ومزج المقامات ليجعلنا نرتحل مع الآلة حتى وصل بنا إلى طاجاكستان وأذربيجان مرورا بتركيا وسوريا والعراق. عرفنا رقصة الشيطان دون أن نبرح مكاننا. فجأة انتقلت المنافى والديار والصحبة والأطلال والأشجار إلى حى جاردن سيتى.

التعليقات