مصر القوية أم مصر القامعة؟ - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 2:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر القوية أم مصر القامعة؟

نشر فى : الأحد 29 يونيو 2014 - 7:20 ص | آخر تحديث : الأحد 29 يونيو 2014 - 7:20 ص

بينما تمر الذكرى الأولى لثورة الثلاثين من يونيو، وهى الحدث الأكثر جدلية فى تاريخ مصر الحديث، فمازال الحديث لا يتوقف عن ضرورة استعادة «هيبة» الدولة، والسعى إلى بناء دولة قوية قادرة على مواجهة التحديات. يدور هذا الحديث فى أروقة السلطة وفى وسائل الإعلام، فضلا عن المحافل الأكاديمية منذ عام كامل دون بذل جهد كاف لتحديد مؤشرات هذه الدولة القوية، وللإجابة عن السؤال الأهم، لماذا نريد دولة قوية؟ وهل الدولة القوية هى هدف قائم بذاته أم أنها وسيلة لتحقيق أهداف أخرى؟ هذا قطعا فضلا عن سؤال آخر هام عن الفرق بين «الدولة» و»النظام» حيث يتم الخلط بين المفهومين عادة.

ولأنه من الملاحظ بشدة فى الآونة الأخير الربط بين «قوة» الدولة وبين «قمع» الدولة، واعتبار البعض، أن الدولة القوية هى الدولة القادرة على البطش لفرض الهيبة، فإن توقفا بسيطا أمام مؤشرات قوة الدولة قد يكون مهما قبل أن تتعقد الأمور أكثر من ذلك وتستمر الحلقات المفرغة للعنف السياسى فى مصر. وفى السطور القليلة القادمة يمكن إيضاح الملاحظات التالية عن قوة الدولة:

• أولا: الدولة القوية ليست هدفا فى حد ذاته، ولكنها وسيلة لتحقيق غاية أسمى تتمثل فى خلق مجتمع قوى يحفظ حقوق وحريات وكرامة المواطنين بداخله، وإلا تحولت الدولة إلى وحش كاسر أو صنم يعبد من دون الله.

• ثانيا: قوة الدولة تنبع بالأساس من قوة شعبها ومجتمعها وليس من قوة سلطتها أو نظامها السياسى، فالمجتمع المتعلم المثقف الواعى المتمتع بالصحة والسلامة النفسية والجسدية والعقلية هو وحده المجتمع القادر على صناعة دولة قوية تحميه وتتمكن من منافسة الدول الأخرى على المستويات الثنائية والإقليمية والدولية.

• ثالثا: قوة الدولة لا تعنى بطشها ولكنها تعنى التزامها بالعقد الذى وقعته مع شعبها والمتمثل ببساطة فى الدستور ومجموعة القوانيين واللوائح التى تنبع من هذا الدستور والتى يجب ألا تخالفه أولا، وأن تتطبق على أرض الواقع ثانيا، وأن يكون تطبيقها على الجميع بلا تمييز ثالثا. ولو أصرت الدولة وسلطتها على خرق الدساتير والقوانين، لتحولت إلى مجرد «فتوة» أو «بلطجى» يخشاه الناس ولا يحترمونه وينتظرون يوما معلوما للانقضاض عليه والانتقام منه!

• رابعا: قوة الدولة لا يمكن قياسها بحجم القمع الذى تمارسه على مواطنيها بدعوى فرض الهيبة، ولكن تقاس بمقدار الإنجاز الذى تقدمه سلطتها السياسية للمجتمع والذى يتحول فى النهاية إلى قياس حجم رضى المواطن عن أداء الحكومة والنظام السياسى وشعوره بالأمن والاستقرار والتنمية وليس العكس.

• خامسا: الدولة القوية هى الدولة القادرة على تطوير صيغة تعاقدية بين نظامها السياسى صاحب القرارات السلطوية فى توزيع الموارد والقيم، وبين المجتمع أو الشعب صاحب الشرعية ومصدرها، وفى التحليل الأخير، فإنه لا توجد صيغة تعاقدية تحقق هذا التوازن بين السلطة والشعب سوى الصيغة الديموقراطية التى توفر وسائل للشفافية والمحاسبة والتوازن والفصل بين السلطات فى إطار علاقة احترافية بين الحاكم والمحكوم تتجاوز المعنى الأبوى التقليدى المنقرض منذ عقود عن السلطة الحاضنة لمواطنيها! ففى المجتمعات القوية لا تحتضن السلطة مواطنيها، ولكنها تلتزم أمامهم بمسئولية حمايتهم وتقديم الخدمات الأساسية لهم مقابل التزامهم بالقوانين والدساتير هكذا ببساطة.

• سادسا: لا يمكن للدولة أن تكون قوية بالمعنى السابق دون أن تكون ملزمة باحترام حقوق الإنسان وكرامته لأن الأخير هو الغاية وهو مصدر السلطات فى النهاية، فهيبة الدولة إذا هى هيبة البشر لا هيبة الحجر، وهو ما يتحقق فى النهاية بإنفاذ القوانين غير المخالفة للدساتير والتى يتم تشريعها بشكل ديمقراطى تمثيلى عادل، وإلا فما قيمة الحديث عن قوة الدولة بينما تنتهك حقوق البشر الذى أعطى سلطة هذه الدولة الشرعية؟

• سابعا: الدولة القوية، هى الدولة المعقدة التعددية، حيث تمارس فيها السلطة على مستويات محلية وإقليمية ومركزية فى إطار تفويض السلطات للأطراف وللمجتمعات المحلية، وفى إطار خلق بيئة سياسية ومجتمعية تحترم التعددية وتعطى مساحة حقيقية للأحزاب السياسية للعمل السياسى العلنى، وتعطى المجتمع حقه فى تنفس الحرية وممارستها.

• ثامنا: الدولة القوية هى الدولة التى تخلق مجتمعا واثقا من نفسه، متعلم، ومتمتع بالصحة، وليس فى خلق مجتمع خانع أو خائف أو مستسلم، فمعادلة الدولة القوية.. المجتمع الضعيف لا تخلق سوى دولة مخترقة السيادة تكثر فيها أعمال التجسس والتأمر وتكون الكلمة العليا فيها للعمل السرى لا المعلن وهو للأسف أول معاول هدم هذه الدولة.

• تاسعا: الدولة القوية هى الدولة التى تقدر العلم والعلماء بسياسات فعلية لا بشعارات براقة، تحترم الجامعات وتعطيها الاستقلالية اللازمة للبحث العلمى المحايد الموضوعى، لا الدولة التى تتغول على حريات الجامعات واستقلالها وتعتبر الأخيرة مجرد أدوات أو معسكرات لتفريغ كوادر «وطنية» طيعة للسلطة معاقبة ومضيقة على أساتذة الجامعات ذوى المواقف الممانعة أو المناوئة لها.

• عاشرا: الدولة القوية هى أخيرا الدولة التى تحترم الدين وتأخذ مساحة كافية بعيدا عنه، فالدين للمجتمع والدولة للجميع، لا الدولة التى تسعى إلى تأميم المساحات الدينية وتعتبرها مجرد أدوات للحشد والتعبئة وتورط معها علماء الدين ورجاله فى الترويج لسياستها حتى يفقد الدين قدسيته فى نفوس البشر ويتحول إلى مجرد وسيلة للحصول على الموارد أو الحظوة المجتمعية أو حتى مجرد غطاء لاتقاء شر هذه الدولة!

•••

أتخيل أن النقاط سالفة الذكر تحدد ملامح هذه الدولة القوية التى نبحث عنها، وتضع حدا فاصلا بين «قوة» الدولة وبين «قمع» الدولة، فالأخير لا يخلق دولة قوية ولكنه يخلق سلطة باطشة تدعى احتكار الحقيقة وتهرب وتراوغ وسائل المحاسبة والمسئولية، لا يخلق البطش سوى سلطة متغولة على حقوق البشر، وشعب مسلوب الإرادة وخائف وخانع، لا يخلق القمع سوى هيبة وهمية على السطح، بينما يغلى الباطن، بحيث تبدو السلطة قوية بالمظهر، بينما يحوى الجوهر تناقضات رهيبة تدعو البعض للتطرف والآخر للانعزال وآخرين للهجرة، فلا يبقى سوى الانتهازيين والمرائين ومحدودى المواهب وأصحاب المصالح للحكم وصنع القرار حتى تنهار تلك السلطة ومن ورائها الدولة!

•••

إن مصر فى هذه الظروف السياسية، تحتاج إلى خلق دولة قوية تقوم على سيادة القانون واحترام الحريات وحقوق الانسان والمواطنة وتوفر وسائل المحاسبة ومسائلة السلطة الحاكمة بها، مصر بكل تأكيد لا تحتاج إلى دولة قامعة باطشة تنتهك حقوق البشر وتسعى لترقبهم مع كل شفيق وزفير بدعوى الهيبة! عرف التاريخ دولا كثيرة باطشة وانتهت دوما إلى الفشل والانهيار لأن البطش يخلق الخوف والأخير يخلق الانسحاب والانعزال أو التطرف أو التملق، وكلها ردود فعل سلبية تنتهى بمجتمع ضعيف ودولة ضعيفة أمام سلطة قامعة تدعى احتكار الحقيقة والتمتع بالشعبية، بينما هى فى الحقيقة تحكم بشرعية الخوف والأخير هو أول معول لهدم الدولة، فهل تنجو مصر من هذا الفهم الخاطئ للقوة؟

لن تكون مصر قوية وكل هذا العدد من شبابها إما مقتول وإما معتقل، ولن تكون قوية طالما أصرت السلطة على سن قوانين تنتهك الحريات المحمية فى الدستور وتفريغ التعددية السياسية من مضمونها بقوانين سلطوية منحازة لم تحصل على أدنى مستويات الحوار المجتمعى فى ظل غياب البرلمان، كذلك لن تكون مصر قوية وجامعاتها ومؤسساتها البحثية مقيدة بأغلال سلطوية تعاملها كمعسكرات للحشد والتعبئة، أتمنى ولن أيئس ومعى كثيرون عن محاربة هذه المفاهيم الخاطئة من أجل مصر أفضل وأقوى وأعدل فى المستقبل.

أحمد عبدربه مدير برنامج التعاون الدبلوماسي الأمريكي الياباني، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.