عن الفتوى والمجال العام فى مصر - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن الفتوى والمجال العام فى مصر

نشر فى : السبت 29 يوليه 2017 - 9:25 م | آخر تحديث : السبت 29 يوليه 2017 - 9:25 م
بشكلٍ عام وباعتبارى مسلمًا مصريًا وبُناءً على بعض أسفارى هنا وهناك، فالشعوب العربية المسلمة تعتبر الفتوى الدينية جزءًا أساسيًا من حياتها، لا نتحدث هنا فقط عما يمكن تسميته بـ «الفتاوى الفنية» كتلك التى تخص المواريث أو الزواج والطلاق أو الصلاة والصوم أو مناسك الحج والعمرة...إلخ، ولكن أيضا نتحدث عن اللجوء للفتوى فى كل مناحى الحياة، حتى تلك التى تبدو لا علاقة مباشرة لها بالفتوى والدين كالعلاقات الحميمة بين الأزواج والصداقة والجيرة والتزاور بين الأسر والعلاقة مع غير المسلم، بل وهناك فتاوى لها علاقة بأمور فنية غير دينية، مثل الطب والفلسفة والفن والسياسة والاقتصاد!
منذ أسابيع قليلة عرفنا أن الأزهر الشريف عن طريق مجمع البحوث الإسلامية وبالتعاون مع وزارة النقل ممثلة فى هيئة مترو الأنفاق قررا إنشاء «أكشاك للفتوى» فى محطات المترو! وقد قيل بأن الهدف من هذه الأكشاك هو «محاربة التطرف»، مما أدى إلى جدل كبير بين المهتمين بالشأن العام حول الجدوى من إقامة هذه الأكشاك وقام البعض بمقارنة التطورات التكنولوجية الغربية بالتخلفات العربية والمصرية والمتمثلة فى إنشاء مثل هذه الأكشاك، كما تساءل البعض عن حقوق غير المسلمين فى إقامة أكشاك دينية مشابهة!
فى تقديرى الموضوع مهم، لأنه فى النهاية يتناول حدود العلاقة بين الدينى والمدنى، وهو نقاش حيوى لمستقبل الدولة المصرية الديموقراطية المدنية التى ننشدها. هناك ملاحظات عدة على هذا الموضوع من زاوية العلاقة بين الدينى والمدنى فى مصر والمنطقة:
الملاحظة الأولى أن هناك أزمة حقيقية فى عقلية المسلم العربى التى تسعى للحصول على الفتاوى بشكلٍ هيستيرى يتجاوز الأمور الفنية الدينية التى تحتاج إلى رأى العلماء من صلاة وذكاة وصوم وحج، إلى استدعاء الفتوى فى كل حركة ونفس فى حياته مهما كانت بسيطة أو ساذجة أو هامشية كدخول دورات المياه والعلاقات الخاصة والعلاقة مع غير المسلم، بل ونتيجة لهذه العبثية أصبحت هناك فتاوى تتناول الطب والاقتصاد والسياسة والجغرافيا والجيولوجيا بلا علم ولا تخصص! الرد التقليدى يكون قطعا أن الدين ينظم كل شئون الحياة، والحقيقة فإن هذا قول حق يراد به باطل، لأن عالم الدين فى النهاية يحصل على مقدار معين من العلم الشرعى لا يجعله متخصصا بلا شك للفتوى فيما لا يعلم مما يؤدى لانتشار الجهل والسطحية والسذاجة فى فهم شئون الدين والدنيا معًا!
الملاحظة الثانية أنه وبسبب هذه الهيستريا أصبحنا أمام سوق فيه عرض وطلب، فعدد الراغبين فى الحصول على الفتوى فى تزايد مستمر، فى مقابل أن عدد المؤهلين لإعطاء هذه الفتوى أقل بكثير، وهو ما تسبب فى عملية عشوائية تزايد فيها عدد من يفتى بلا علم ولا تأهيل، وقد ساعد فى ذلك قطعا انتشار الزوايا وتتطور وسائل الفتوى تكنولوجيًا، وهو ما استوجب خطوة محمودة من الأوقاف والأزهر الشريف فى تنظيم منصات الفتوى والتأكد على أن من يُقدم على إفتاء الناس هم من أهل العلم وفى هذا الإطار طورت دار الإفتاء من منصاتها وأدواتها وأصبح هناك أرقام هاتفية ومنصات إلكترونية بالإضافة للطرق التقليدية فى الحصول على الفتوى، كما قامت الأوقاف بالتأكد من هوية من له الحق فى اعتلاء المنابر، وجميعها خطوات جيدة فى تقديرى ومطلوبة، وفى هذا الإطار جاءت فكرة «أكشاك الفتوى».
***
الملاحظة الثالثة: مترو الأنفاق عموما أصبح مكانًا للتفاعلات الفنية والثقافية والاجتماعية بين البشر! فى اليابان، المحطات الرئيسية مثلا أصبحت سوقا للسلع ومتنزها للأطفال ومكانا للأكل والشرب والمقابلات الاجتماعية والرومانسية. فى بعض الدول الأوربية ينتشر أيضًا التبشير فى محطات المترو ويملك المبشرون مجلات وكتب عن الأديان التى يبشرون بها ليوزعوها على المارة، فى أمريكا تنظم الكثير من العروض الفنية والثقافية فضلا عن الدعايا والإعلان، بل وفى مصر فإنه لطالما كان هناك دائما مكتبات لمبيعات بعض المؤسسات الكبرى كالأهرام والأخبار وبالتالى من حيث المبدأ، ففكرة وجود أنشطة ثقافية للأزهر الشريف أو لدار الإفتاء هو أمر طبيعى ومقبول ولا أرى فيه أى مشكلة!
الملاحظة الرابعة: أتفق مع الفريق الذى ذهب إلى أن مسمى «أكشاك الفتوى» هو مسمى غير دقيق، ولا أعرف حتى الآن من الذى أعطاها هذا الاسم، ربما نسميها «نقطة» أو «مقر» أو غيرها من المسميات، كما أنه وبالبحث عن الأمر بعيدًا عن الإشاعات والمعلومات غير الدقيقة، نفهم أن هذا نشاط موسمى سينتهى بعد عيد الأضحى المبارك وأننا لسنا أمام «أكشاك»، ولكن هناك نقطة واحدة للفتوى حتى الآن موجودة فى إحدى المحطات الحيوية ذات الكثافة المرتفعة وكلها أمور طبيعية ولا ضرر منها.
الملاحظة الخامسة: أتصور أن من قام بتسجيل خوفه من التجربة محقٌ أيضًا، لأنه وإذا كانت الفكرة منطقية ومقبولة كما قلت، إلا أن السياق العام للتطبيق يبعث على بعض القلق، فمثلا جاء التنفيذ بعد إذاعة محطات المترو فقراتٍ دينية إسلامية على الجمهور، مما يوحى بأن الأمر ليس مجرد تقديم خدمة دينية للراغبين كما هو الحال فى أكشاك الفتوى، ولكن اتخذ الأمر بعض أشكال الهيمنة الدينية وهو قطعًا مرفوض لأن محطات المترو يرتادها المسلم وغير المسلم أو حتى المسلم غير المتدين أو غير الراغب وكلها أمور يجب على إدارة هيئة المترو احترامها دون تعصب أو تشدد.
***
الملاحظة السادسة: لا أعتقد أبدًا أن نقاط أو نقطة الفتوى هذه لها علاقة بمحاربة الفكر المتطرف كما يقال، فالإنسان الذى تطرف لن يذهب إلى محطة مترو الشهداء خصيصًا بحثًا عن الهداية أو الفكر الصحيح، والإرهابى لن يمر على نقطة الفتوى قبل تنفيذه أى عملية إرهابية! وفى تقديرى فإن أهمية نقطة الفتوى تنبع من توفير وسيلة جديدة لتنظيم عملية عرض الفتوى على الطلبات المتزايدة عليها لا أكثر ولا أقل، وأى حديثٍ عن محاربة الفكر المتطرف به تزيُّد غير حقيقى ويُحمِّل هذه التجربة ما لا تحتمله.
الملاحظة السابعة والأخيرة: هى أن الفتوى والدين جزء من المجال العام فى مصر شئنا أم أبينا، اتفقنا أو اعترضنا، وهى بالمناسبة ما زالت جزءًا من المجال العام حتى فى الدولة الديموقراطية العلمانية، وبالتالى الأولى من عملية السخرية والتهكم المستمرة بلا توقف على أى مظهر دينى والتى يحمل بعضها مسحات من الانعزال عن واقع المجتمع أن توجه الجهود للضغط على الدولة للتأكد من تنظيم هذا التواجد فى المجال العام، سواء بجعل الخدمة الدينية متاحة دون هيمنة كما أوضحت أعلاه، أو فى جعلها متاحة بشكل حيادى وتعددى، وهو ما يعنى أنه لو رغب غير المسلمين فى خدمة مشابهة فعلى الدولة الاستجابة لأن جهاز الدولة فى هذه الحالة يجب أن يكون محايدًا ويقوم بأدوار تنظيمية وتنسيقية لدور الدين فى المجال العام بحسب القانون والدستور.
***
أتمنى بعد نهاية هذه التجربة الجديدة أن يقوم الأزهر الشريف بعرض تقرير للرأى العام، يتضمن عدد الذين تقدموا للحصول على فتاوى فى هذه «الأكشاك»، كم ذكر وكم أنثى، فئاتهم العمرية، ما هى الموضوعات التى يسألون عنها، ما هى الموضوعات التى تشغل كل فئة عمرية، وهكذا، أتصور أن تقديم تحليل إحصائى كهذا مهم جدا للوقوف على جدوى التجربة والاستفادة منها.
كما أتمنى أخيرًا أن تسعى هيئة المترو إلى تطبيق تجارب جديدة فى المحطات الحيوية بالتعاون مع وزارة الثقافة ووزارة الشباب والنوادى ومراكز الشباب من خلال تخصيص مساحات داخل هذه المحطات للعروض الفنية والثقافية وتقديم المأكولات والمشروبات بأثمان معقولة، بحيث تصبح هذه المحطات مكانا للتفاعلات الثقافية والفنية والاجتماعية لعل ذلك يقدم متنفسًا للمواطنين فى ظل هذه الظروف الصعبة.
أحمد عبدربه مدير برنامج التعاون الدبلوماسي الأمريكي الياباني، وأستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر.