الجدل السياسى حول تكريم محمد نجيب - إبراهيم عوض - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 12:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الجدل السياسى حول تكريم محمد نجيب

نشر فى : السبت 29 يوليه 2017 - 9:15 م | آخر تحديث : الأحد 30 يوليه 2017 - 10:19 ص
فاجأ الرأىَ العامَّ إطلاقُ اسم اللواء محمد نجيب على قاعدة عسكرية هى الأكبر فى مصر، بل فى منطقة الشرق الأوسط. الرجل غاب عن سجلات التكريم التى ترعاها الدولة لأكثر من ستين عاما، قضى هو ثلثها رهن إقامة جبرية فرضتها عليه هذه الدولة نفسها. لم تفصح الدولة عن الأسباب التى دعتها لتكريم الرجل ولا هى بهذه المناسبة اتخذت موقفا من العشرين عاما التى اختفى هو فيها عن العالم، ولا من تجاهل التاريخ الرسمى له طوال العقود الستة الماضية. 
غير أن مفاجأة من هذا النوع لم تكن لتمر مرور الكرام. ثلاثة مواقف اتُخذت من مبادرة الدولة المفاجئة هذه، اختلطت بجدلٍ بشأن وضع محمد نجيب فى «حركة الجيش المباركة»، وبخصوص ثورة يوليو عموما، ووصل الجدل إلى الخلاف بين محمد نجيب، رئيس الجمهورية فى سنة 1954، وجمال عبدالناصر تسانده أغلبية أعضاء مجلس قيادة الثورة، وهو الخلاف الذى حسمه هؤلاء لصالحهم. ليس هذا المقال معرض تأريخ ولكنه فرصة لمحاولة الكشف عن حالة الجدل السياسى فى مصر فى الوقت الحالى. توجد تنويعات فى المواقف الثلاثة ولكننا نستعرضها هنا باختصار فى خطوطها العريضة.

***

الفريق الأول رأى فى تكريم محمد نجيب بعد ثلاثة وستين عاما من هزيمته فى محصلة مواجهات مارس ونوفمبر 1954 تعبيرا عن الوفاء للرجل الذى يرجع له فضل كبير فى نجاح حركة الجيش فى يوليو سنة 1952، وهو استنكر تحديد إقامته لفترة عشرين عاما. ولم يكتف هذا الفريق بذلك بل إنه مدّ حججه لينتصر لمحمد نجيب فى خلافه مع عبدالناصر. هذا الفريق أشاد بموقف محمد نجيب، وهو كان الدعوة إلى عودة الجيش إلى ثكناته، وكذلك إلى عودة الحياة النيابية، واستنكر تعسف جمال عبدالناصر فى ممارسة السلطة ثم فى توسيعه لدور الدولة فى الاقتصاد والمجتمع معتبرا أن هذا التوسيع مسئول عن التعثر المستمر فى حياتنا الاقتصادية وفى عملية التنمية فى بلادنا. 
الفريق الثانى، لم يندد أغلب أعضائه بالرجل، ولكنهم شددوا على أن جمال عبدالناصر هو المنظم الحقيقى لحركة الجيش وقائدها، معتبرين أن إبعاد محمد نجيب كان ضروريا لكى تتحول الحركة إلى ثورة اجتماعية انتصرت للفقراء وفتحت أمامهم آفاقا كانت من قبل موصده. فى حججه، عدّ هذا الفريق إنهاء الاحتلال البريطانى والجلاء ثم تأميم قناة السويس من إنجازات جمال عبدالناصر التى ما كانت لتتحقق لو لم يكن هو رأس السلطة ومحرك الثورة. 
الفريق الثالث لم ير بأسا فى إطلاق اسم محمد نجيب على القاعدة العسكرية، فالرجل بالفعل كان ضروريا لكى تنجح حركة الجيش فى سنة 1952، ثم هو من وقف فى السنة السابقة عليها فى وجه الملك فى انتخابات نادى الضباط، ومن قبلها حارب فى فلسطين فى سنة 1948. ولكن لهذا الفريق تحفظات على حجج كل من الفريقين الأولين. والحجج كلها، المصرّح بها والمسكوت عنها، تتعلق بالوضع السياسى الحالى فى مصر. ما يراه الفريق الثالث جدير بأن يعتدّ به. 
بالفعل لم يكن إنسانيا تحديد إقامة الرجل، بدون حكم ولا محاكمة، لمدة عقدين من الزمن فى منزل منعزل، مُنِعت عنه الزيارات فيه، فى منطقة كانت عندئذ نائية. أعضاء الفريق الأول يعتبرون تحديد الإقامة هذا دليلا على تعسف ثورة يوليو، وجمال عبدالناصر تحديدا، وعلى عدائهما للتعددية والديمقراطية. ولكن أعضاء هذا الفريق يتوقفون عند ذلكو أنت لا ترى لهم نفس الموقف من التعددية الفعلية والديمقراطية فى أزمنة أخرى، منها زماننا الراهن. لذلك، فإنك لا بدّ أن تشكَّ فى سبب احتفائهم بتكريم محمد نجيب. يبدو أن السبب الحقيقى عند أعضاء الفريق الأول هو مناهضتهم للثورة بمعناها الاجتماعى. معيار الثورات هو هزّها للنظام الاجتماعى. فى التاريخ الحديث والمعاصر، غيرّت الثورات الفرنسية والروسية والصينية والإيرانية الأنظمة الاجتماعية فى بلدانها تغييرات تفاوتت فى جذريتها. ثورة يوليو أدخلت تغييرات أقل جذرية ولكنها ذات آثار لا تنكر، أقله فى القيم والمثل الاجتماعية التى بثّت بين المواطنين. هذا المفهوم الجديد، المواطنون، الذى أدخلته ثورة يوليو على الثقافة السياسية المصرية، مأخوذا عن الثورة الفرنسية، يعبرّ عن المساواة بين الناس جميعا، مساواة تميّز زمن الثورة عن «العهد البائد»، وهو مفهوم آخر استعير من الثورة الفرنسية. أعضاء الفريق الأول لا تروقهم المساواة والعدالة الاجتماعية، ولا حتى على سبيل المُثُل، فهى لم تتحقق فى الواقع، إذ يبدو أنهم يعلمون أن للمثل قوة هائلة، وإن كانت كامنة. 
أعضاء الفريق الثانى يغضّون الطرف عن التحديد غير الإنسانى لإقامة محمد نجيب، وكأن لسان حالهم يقول أن هذا ثمن الثورة. أليس للثورات كلها بما فيها الثورة المؤسسة للديمقراطية التعددية والمبلوِرَة لحقوق الإنسان، أى الثورة الفرنسية، ضحايا أبرياء كثيرون؟ أعضاء الفريق الثانى لا يكتفون بذلك، بل إن الكثيرين منهم يستمرون فى عدم اكتراثهم بالديمقراطية. التوجس من التعددية الفعلية هو أسوأ ما أدخلته ثورة يوليو على الثقافة السياسية المصرية مثلما كانت كرامة البشر والعدالة بينهم أفضل ما رفدتها به. تحقق قدر من العدالة بفعل إرادة جمال عبدالناصر ولكنه تراجع بعد ذلك بفعل إرادة غيره. ألا يمكن تحقيق العدالة بين البشر، مع احترام هؤلاء البشر، وإعمال المبدأ الأساسى لاشتراكهم الفعلى فى تحقيق هذه العدالة؟ هل ينسى بعض أعضاء الفريق الثانى أن عضو مجلس قيادة الثورة الوحيد الذى اتفق فى الموقف مع محمد نجيب هو أيضا اليسارى والاشتراكى الوحيد بينهم، وهو خالد محيى الدين؟ 
ولكن أعضاء الفريق الثالث يتساءلون كذلك عن مغزى تكريم اسم محمد نجيب بعد كل العقود التى مرّت. هل هو إعادة للاعتبار إليه كما قال البعض؟ أى اعتبار؟ الخلاف فى سنة 1954 لم يكن على أشخاص بل على فكرة الحياة النيابية التعددية، فضلا عن عودة الجيش إلى ثكناته. فى هذا المقام يذكر مشروع دستور سنة 1954 الراقى الذى ألقى به فى «صفيحة زبالة» كما يرد فى عنوان الكتاب القيم الذى عرضه. هل التكريم إذن إعادة لاعتبار النظام النيابى التعددى الذى نادى محمد نجيب بالعودة إليه وحُددت إقامته بسببه لمدة عشرين عاما؟ على ضوء الحالة الراهنة للنظام السياسى المصرى، بالتأكيد ليس هذا الغرض من إطلاق اسم محمد نجيب على القاعدة العسكرية الجديدة. 

***

ما هو الغرض إذن؟ إن كان هو تكريم كبار الضباط المصريين المتفق على وطنيّتهم، فهل نرى يوما قاعدتين أو بارجتين باسم عزيز المصرى ومحمود سامى البارودى؟! أم أن الأمر يتعلق بتجميع كل ما ومن له علاقة بيوليو على سبيل تأكيد أن النظام السياسى المصرى القائم بذرته زرعت فى يوم 23 يوليو 1952، اليوم الذى طلّ فيه محمد نجيب على الشعب المصرى؟ بذلك تكون معروضة على المصريين كل مصادر الشرعية المستمدة من يوليو، ينتقى كلٌ من بينها ما يروقه: جمال عبدالناصر بالطبع، وأنور السادات، وها هو محمد نجيب، بل وحسنى مبارك نفسه ممثلا فى رجاله المنتشرين والعائدين إلى أروقة النظام السياسى المصرى. 
ولكن مع الاحترام الواجب لمحمد نجيب ولوطنيّته ولدماثته وللمودّة التى كنّها المصريون له، فإنه فى شخصه لم تكن له قيمة سياسية فى سنة 1954، وبالتأكيد ولا فى الوقت الحالى. لذلك، فإنه بعد الزوبعة قصيرة الأجل التى شهدها الأسبوع الماضى لن يكون لإطلاق اسمه على القاعدة العسكرية الجديدة أى مردود من ناحية الشرعية السياسية. القيمة الوحيدة لمحمد نجيب هى فى دعوته إلى الحياة النيابية التعددية الحقة.
فى هذا يتفق معه أعضاء الفريق الثالث ولكنهم يضيفون إلى ذلك دعوة أخرى إلى توزيع عادل للدخل والثروة، وإلى إعلاء مثل العدالة واحترام البشر والمساواة فى كرامتهم، وإلى انتهاج السياسات التى تحقق هذه المثل.
التحدى هو أن تقترن الديمقراطية بالعدالة الاجتماعية. للقيمتين خصوم لا يستهان بهم منذ العهد الملكى. ولكن الأغلبية الساحقة من المواطنين، إن نظمت ديمقراطيا، ستستطيع اكتساب العدالة الاجتماعية والدفاع عنها.
إبراهيم عوض أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات