محنة حرية الفكر والاعتقاد - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:09 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

محنة حرية الفكر والاعتقاد

نشر فى : الخميس 29 سبتمبر 2016 - 9:40 م | آخر تحديث : الخميس 29 سبتمبر 2016 - 9:40 م
كنت عازما على كتابة مقال عن موضوع آخر لولا أن فاجعة اغتيال الكاتب الأردنى ناهض حتر من قبل معتوه أحمق جديد من بين مئات الألوف المعتوهين الحمقى فى بلاد العرب وبلاد المسلمين تحتم الانضمام إلى صفوف المناهضين لظاهرتى التطرف المجنون والفهم البليد لدين الإسلام، اللتين ترمز إليهما حادثة الاغتيال تلك.

وإذا كانت هذه حادثة أودت بحياة فرد فإن «القاعدة»، ومن فرخت من أبناء وبنات وأحفاد، قد مارست مثلها، وأبشع منها، بحق الألوف من البشر الأبرياء، بنفس الجنون والفهم اللاعقلانى للإسلام.

مأساة ناهض حتر تطرح مرة أخرى موضوع حرية الفكر والاعتقاد التى أقرها القرآن الكريم، ولكن يرجف بفهمها المرجفون.

***

حرية الفكر والاعتقاد هى من الأسس التى قامت عليها رسالة الإسلام. فآية «لا إكراه فى الدين قد تبين الرشد من الغى»، وآية «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» واضحتان ولا تحتاجان لأى تفسير، وهما تحكمهما الآية «تلك آيات اللُه نتلوها عليك بالحق فبأى حديث بعد الله وآياته يؤمنون». وبمعنى آخر فإن أى حديث، من أى كان وتحت أى مسمى، يتناقض معهما ويبطلهما هو حديث غير مقبول عقلا وغير إسلامى انتماء.

إذن، ليست المشكلة فى القرآن وإنما فى مكان آخر، كتبت بشأن نقاط الضعف فى بنائه وفى محتوياته المجلدات، ومن قبل أشخاص لا يُشكك فى إيمانهم وتديُنهم وعلمهم وغيرتهم على طهارة دينهم.

هذا المكان الآخر تمثل أولا فى ما سمى بعلوم الحديث: تلك الأحاديث النبوية التى زاد عددها من نحو خمسمائة أيام الخلافة الراشدة إلى نحو المليون فى عصر المأمون، تلك التى وضع الكثير منها لدعم مشروعية هذا الحكم أو ذاك أو لدعم هذا المذهب أو ذاك أو لتشويه الدين الجديد عن طريق الإسرائيليات، وتلك التى اختلف حول معيارى تصنيفها وترجيحها وصحتها، معيار السند ومعيار المتن والتى بسبب ذلك امتلأت بالخرافات وبالاعتداءات على طهارة نبى الإسلام وبجرأة محاولة نسخ بعض آيات القرآن وبالادعاء بمعرفة تفاصيل عالم الغيب وبالحط من مكانة المرأة وبمخالفة الآيات القرآنية بشأن حرية الإنسان فى فكرة وعقيدته وتصُرفاته.

ولقد دون كل ذلك فى كتب مذهبية اكتسبت القداسة عند البعض والصدقيُة التامة عند البعض الآخر. ومع أن كثيرا من الكتاب الإسلاميين طالبوا مؤخُرا بمراجعة تلك الكتب وتنقيحها مما علق بها من نقاط ضعف كثيرة إلاُ أنها لا تزال راسخة فى الحياة الدينية والثقافية والسياسية، تمدُ من يريد من المعتوهين والمجانين بزاد لا ينضب لارتكاب إراقة الدماء والمجازر ولوضع العرب والمسلمين والإسلام فى مواجهة مع العالم كلُه ولممارسة بشاعات سبى النساء والاعتداء عليهمُ جنسيا وغيرها كثير.

ومع الأسف فإن بعضا من الأنظمة السياسية العربية والإسلامية وكثيرا من المؤسسات الدينية والفقهية والمذهبية ومجموعات من مدُعى العلم المرتزقين الدجالين ضالعون فى ترويج ذلك الفهم وذلك التقديس، وبالتالى فى رفض المراجعة والتنقيح لكتب ذلك التراث المشوُه المستغل.

وكنتيجة طبيعية لكل ذلك التخبُط فى عالم علوم الحديث، المعتدى عليه زورا وبهتانا، الذى يستعمل اليوم من قبل المعتوهين كمصدر لزرع الفتن والصراعات وارتكاب الموبقات، أدخل بعض الفقهاء علوم الفقه الإسلامى فى متاهات كثيرة باسم الاجتهاد أحيانا وباسم منع الفتن والبدع أحيانا آخر. هذا الفقه الذى بناه بشر واجتهدوا فيه حسب علوم وظروف ونمط حياة أزمنتهم انضاف إلى محنة علوم الحديث ليكوُن الركن الثانى فى ذلك المكان الآخر. وهو الآخر، وبصورة مؤكُدة، يحتاج إلى نفس المراجعة والتنقيح والتجديد والإخراج من عالم المذهبية الضيُق، بل وبنائه من جديد كفقه جديد يأخذ بعين الاعتبار علوم هذا العصر وظروفه وبشره.

إذ بدون هكذا مراجعة وتجديد سيبقى هذا الفقه ايضا أحد المصادر التى تستعمل ما فيه من حلول وضعت لظروف تاريخية مختلفة عن حاضرنا، لاستعماله هو الآخر فى تدمير مبدأ حرية الفكر والاعتقاد القرآنى وبالتالى فى إراقة الدماء وترسيخ حياة التخلٌف والتزمُت والظلم والطأفنة البغيضة البدائية.
إن ما يحز فى النفس هو تقديس ذلك الفقه وتناسى ما قاله على سبيل المثال أبو حنيفة «هذا رأيى، فمن جاء برأى أفضل قبلناه» أو مالك «أنا بشر أخطئ وأصيب» أو الشافعى «إذا صح الحديث بخلاف قولى فاضربوا بقولى عرض الحائط» أو بن حنبل «ما ضيق علم الرجال تقليد الرجال. فلا تقلدوا الرجال فإنهم لا يسلمون من الخطأ» وبصورة مؤكدة ينطبق الأمر على مؤسسى كل المذاهب الفقهية الأخرى.
***
نستطيع فى بلاد العرب وبلدان الإسلام أن نتحدث إلى ما شاء الله عن فلسفات الحريُات وأفكار الحداثة ومتطلبات الديمقراطية وأهمية التسامح وتحكيم القضاء العادل فى كل خلافاتنا، لكن ذلك لن يفيد. إن المعتوهين والمجانين لن يقرأوا ذلك، فهم مشغولون بقراءة ما يعجب نفوسهم المريضة فى ثنايا ذلك التراث المبتلى بالعلل. من هنا ستظل الدماء تسفك دون وجه حق، والأزواج يفرُقون دون وجه حق، والمرأة تعانى وتئن، وأجهزة الأمن تستغل رسما كارتونيا أو جملة عابرة لتصفية حساباتها مع خصومها السياسيين، والحياة العربية ترزح تحت مآسى القرون وبلاداتها، وأمثال ناهض حتر يسقطون على وجوههم فى برك دمائهم.
نحن هنا نتحدث عن حادثة الاغتيال الهمجى وليس عما إذا كان الكاتب قد أخطأ التقدير والتعبير، فهذا موضوع آخر. هذا الاغتيال الغادر يضيف الحزن والأسى إلى مأساة حرية الفكر والاعتقاد فى أرض العرب التى تمارس كل ما يغضب الذات الالهية تم تدعى حمايتها.
علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات