شعوب خارج السياسة: بين أحزاب العسكر والإسلاميين - طلال سلمان - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 2:49 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شعوب خارج السياسة: بين أحزاب العسكر والإسلاميين

نشر فى : الثلاثاء 29 أكتوبر 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 29 أكتوبر 2013 - 8:00 ص

كشفت الانتفاضات المتوالية التى شهدتها معظم الأقطار العربية أن الشعوب فيها كانت تعيش «خارج السياسة»، وأنها فوجئت بسقوط أنظمة الطغيان «فى الشارع» وقبل أن تكون هذه الانتفاضات قد وجدت قياداتها، أحزابا سياسية ومنظمات وهيئات ونقابات، المؤهلة لصياغة «جبهة وطنية» متينة البنيان ومؤهلة لتولى المسئولية عن المرحلة الانتقالية، ومن ثم العبور إلى عملية إعادة بناء الدولة.

كانت «الأنظمة الجديدة» التى تستولدها انقلابات عسكرية مموهة بشعارات مستعارة من تنظيمات وأحزاب سياسية لها تاريخها النضالى، فى زمن مضى، تنسب نفسها إلى «الثورة»، وتدغدغ طموح «الجماهير» إلى الحرية والتقدم وتوكيد الهوية الوطنية ــ القومية.

أحيانا كان «النظام الجديد» يستولد حزبه من صلب أحزاب قديمة لم تكن فى أى يوم أحزابا حقيقية، كما فى مصر مع السادات، أو مع مبارك، مستدرجا بعض الأحزاب العريقة تاريخيا والتى غادرت منهجها الانقلابى، كما الإخوان المسلمين، إلى علاقة ملتبسة هى أقل من تحالف وأدنى من شراكة، وتبقى أقرب إلى معادلة: التبعية مقابل وقف المطاردة، بمكافأة لا تتجاوز بضعة مقاعد فى مجلس نيابى «معين» أو مزورة انتخاباته.

فى أقطار أخرى، كما العراق وسوريا، كان بعض الحزبيين العسكريين يستفيدون من ضعف الحكم واحتياجه إلى تأييد الجيش، فيعملون على الاستيلاء على مواقع الآمرة، ويتخذون من التجنيد الإجبارى وسيلة لحشر العدد الأكبر من محازبيهم ومناصريهم فى الكلية الحربية أو فى القطع العسكرية المختلفة، ويلعبون على التناقضات بين القوى السياسية النافذة (وما أكثرها) حتى إذا جاءت «ساعة الصفر»، وفق تخطيطهم، قفزوا إلى «السلطة» عبر «جبهة وطنية تقدمية» هم من شكلها ووزع المواقع فيها تاركين «للحزب القائد» موقع الصدارة وحق القرار.

أما فى تونس فقد باغتت «انتفاضة البوعزيزى» الأحزاب القائمة والتى كانت مقموعة فى عهد الحكم العسكرى وبعض قياداتها فى المنافى الفخمة بينما بعضها الآخر فى السجون ومن بقى فى الداخل موه وجوده أو تخفى بعيدا عن عيون السلطة.. وكان على «النهضة» وسائر التنظيمات السياسية (إسلامية وتقدمية وتقليدية)، وكذلك الحركة النقابية التى كانت ذات يوم قيادة بديلة للعمل الوطنى، أن تتنادى إلى شكل من الائتلاف سرعان ما حاولت «النهضة» ابتلاعه وتفكيكه، ليتسنى لها التقدم إلى السلطة من موقع «الحزب القائد» تاركة «للشركاء» مقاعد فى الصفوف الخلفية سرعان ما اعترضت عليها فانفرط عقد الائتلاف واحتلت الأزمة شوارع تونس من جديد.

•••

لم تكن الجيوش مسيسة فى أى يوم. حاول العديد من الأنظمة الإيحاء بأنه قد نجح فى بناء «الجيش العقائدي» لكن التجارب المريرة فى كل من العراق وسوريا (وليبيا، إذا ما جاز التشبيه) قد أكدت أن العسكر يبقون عسكرا، بغض النظر عن الشعارات المكتوبة على جدران الثكنات أو الرايات الحزبية التى ترفع فوق رءوس القطع العسكرية، وأثبتت التجارب المريرة فى كل من العراق وسوريا، ومن قبلهما مصر، أن الدراسة فى المعاهد العسكرية للاتحاد السوفييتى ومعسكره الاشتراكى لم تجعل من الضباط العرب شيوعيين، وإن كانت هذه البلدان هى مصدر سلاح جيوشهم، برا وبحرا وجوا.. بل إن الأنظمة التى كانت توفدهم إلى دول المعسكر الشيوعى كانت تطارد فتعتقل من ظهرت عليه «ملامح» الشيوعية، أو «تنفى» من لا تستطيع اعتقاله، لأسباب عائلية أو قبلية أو طائفية، بما يعطل تأثيره على أقرانه من الضباط أو على الوحدات العسكرية.

من انتفاضة تونس إلى انتفاضة مصر إلى انتفاضة ليبيا وصولا إلى الانتفاضات متعددة الشعار فى سوريا، تبدى «الإخوان المسلمون» فى صورة «الحزب الأوحد» أو فى صورة «الحزب الأكثر حضورا» فى الشارع العربى.

لكن هذا «الحضور» لم يكن ليهيئ هذه التنظيمات الإسلامية التى عاشت أطول مما يجوز فى العتم، وتواطأت مع الأنظمة الحاكمة على الأحزاب والحركات السياسية ذات الشعار القومى أو التقدمى التى افترضت أنها تهيئ نفسها لقيادة الانتفاضات وصياغة النظام البديل الذى نزلت الجماهير إلى الميدان بأمل الوصول إليه.

أما فى ليبيا حيث لا تجربة سياسية ولا أحزاب جدية، وحيث التنظيمات ذات التوجه الإسلامى استعيدت على عجل من المنافى المرفهة، أو نفخ فى أحجامها بأكثر مما تطيق فتناثرت شللا غنية تملك كل شىء (المال والسلاح والرجال) ما عدا التنظيم وما عدا التجربة.

وإما فى سوريا فقد انكشف عجز الإخوان المسلمين وبؤس تجربتهم السياسية عندما تفجر الشارع بالغضب، إذ تصدوا للقيادة بغير برنامج وبغير أهلية، اللهم إلا ما تبقى من برنامجهم السياسى العتيق الذى لم يلقَ قبولا لدى الشعب، بمعزل عن تاريخ صدامهم مع النظام، وهو بالمجمل دموى جدا، لا تشفع له دمويته ولا هى تؤهلهم للقيادة، حتى عند معارضى النظام.. فكيف وقد جاء إلى «الجبهة السورية» المشتعلة أشتات من التنظيمات الإسلامية المختلفة، أبرزها تلك المنتمية إلى «القاعدة»أو المتفرعة عنها، بعضها قدم من بعض أنحاء الاتحاد الروسى أو من تلك الجمهوريات الإسلامية التى استقلت عنه.. وواضح أن هذه التنظيمات الغريبة عن الأرض السورية (أو العراقية) وأهلها لا تهتم لأعداد الضحايا ولا لحجم التدمير والخراب والتشريد، وكل ما يلحق من أذى بسوريا وشعبها، سواء المعارضين منه والموالين.. فلا هؤلاء الوافدون من الأغراب ينتمون إلى الأرض، ولا هم يهتمون لأعداد القتلى والجرحى، ولا هم معنيون بأن يقدموا «مشروعا سياسيا» لسوريا الجديدة كما يتصورونها.. فليسوا «وطنيين» ولا هم «قوميون» ولا هم «تقدميون» أو «أمميون» بحسب التصنيف الشيوعى.. إنهم، فى نظر أنفسهم، «مجاهدون فى سبيل الإسلام». لكن للإسلام نسخا شتى. ثم أن الدين الحنيف يرتبط عند المؤمنين بأرضهم، ويحضهم على حب أوطانهم، فحب الوطن من الإيمان، وقد انقضى عصر «الجهاد» و«الفتوحات» بالتفجيرات القاتلة وبالإغارات على المدن والقرى لهداية أهلها (وهم مسلمون) إلى الدين الحنيف، ومطاردة الأقليات غير المسلمة وتشريدها ودفعها دفعا إلى هجرة الأوطان (وقد كان هؤلاء المشردون أو المطاردون بالقتل من أبنائها الأوائل ومن حفظتها، إخوة لشركائهم فى الوطن والإيمان من المسلمين).

•••

هل من التعسف القول أن «الجيش» يكاد يكون «الحزب الوحيد» الذى كان، وما زال قائما، بديلا من الأحزاب السياسية، سواء تلك التى استهلكها الصراع على السلطة أو استهلكتها السلطة عندما تسلمتها قفزا إليها من فوق رءوس الناس، ومن دون أن تملك برنامجها واضحا للنهوض بالبلاد.

لقد حمى الجيش، وفى مصر تحديدا، الانتفاضة الشعبية، أول مرة، فلم يتصد لقمعها. ثم حمى الانتخابات التى أوصلت إلى الرئاسة «إخوانيا»، فلم يمنعه من الوصول، ثم تدخل مرة ثالثة ليوقف مسيرة التفرد بالتعصب الحزبى، فاتحا الباب ــ عبر مرحلة انتقالية ــ لقيام مشروع نظام ديمقراطى، إذا ما نجح تجمع القوى السياسية المؤتلفة فى صياغته ولم تفرقه الخلافات أو يمزقه الصراع على سلطة لم تتحدد قواعدها ومعالمها بعد.

وتجربة مصر هى الباب إلى المستقبل، ليس فى «المحروسة» وحدها، بل فى سائر أقطار الوطن العربى.

وعسى تنجح مصر فى هذا الدور الريادى التاريخى.

طلال سلمان كاتب صحفي عربي بارز، مؤسس ورئيس تحرير جريدة السفير اللبنانية، كما أنه عضو في مجلس نقابة الصحافة اللبنانية - المدونة: www.talalsalman.com
التعليقات