التخطيط لا يصح إلا بدوام التطوير .. منهجًا وتنفيذًا - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 11:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التخطيط لا يصح إلا بدوام التطوير .. منهجًا وتنفيذًا

نشر فى : الإثنين 29 ديسمبر 2014 - 8:00 ص | آخر تحديث : الإثنين 29 ديسمبر 2014 - 8:00 ص

رغم أن الخطة القومية الأولى التى اعتمدتها مصر منذ بداية الستينيات حققت قدرا كبيرا من النجاح جعلها موضعا لإشادة عالمية ومرجعا لكثير من عمليات تخطيط من أجل التنمية لدول عربية وأفريقية، فإن الرغبة فى تحسينها دفعت القيادة المصرية إلى اتخاذ خطوات من قبيل التخطيط الهيكلى قبل مواصلة مراحلها. ويمكن تلخيص أهم الدوافع إلى تلك المراجعة فى ما تلخصه عبارة «المعادلة الصعبة» التى تشير إلى الصعوبات التى تكتنف الجمع بين شرطين لازمين معا رغم ما بينهما من تعارض: زيادة الاستهلاك وزيادة الادخار لزيادة الدخل قبل أن تتحقق من خلال زيادة الاستثمار.

فلكى يتحقق رفع مستوى المعيشة لكافة أفراد الشعب، يجب رفع دخل الفرد، أى نمو الدخل القومى بمعدل يتجاوز معدل نمو السكان. كان معدل نمو السكان حوالى 2.6% سنويا فاستهدف أن يزيد الدخل بمعدل 7% ليتضاعف فى 10 سنوات، بدلا من معدله السائد الذى كان حوالى 4.5% فتحتاج المضاعفة إلى 20 سنة. واقتضى هذا أن يتضاعف معدل الاستثمار ومن ثم معدل نمو الادخار الذى كان لا يتجاوز 10% من الدخل، ليقترب من 25% فى نهاية العشر سنوات، وهو ما كان يقتضى تخطيه فى السنة الخامسة 16% على الأقل لتمكين الاستثمارات من بلوغ مرحلة التشغيل بنهاية الخطة. وبعبارة أخرى فإن نسبة الاستهلاك كان يجب ألا تتجاوز 84% من دخل السنة الخامسة. فإذا روعى انحياز توزيع الدخل إلى العاملين بأجر المحدودى القدرة على الادخار، مع تحمل الدولة تكلفة خدمات ترفع بها عنهم عبء تكاليفها، فإن على الخطة أن تحدد مقومات الحد من سرعة نمو استهلاك الأفراد وتهيئة أوعية تساعد فى توجيه المدخرات إلى تمويل الاستثمارات الإنتاجية بعيدا عن الريعية الشائعة بين المصريين. وهكذا فإن الإسراع بنمو الاستهلاك يتطلب نموا أسرع للمدخرات، وهو ما كان يحتاج إلى مزيد من التحكم فى سلوكيات الأفراد والدولة معا.

ويتوقف جانب هام من متطلبات حل تلك المشكلة على رفع الكفاءة الإنتاجية مع العمل فى نفس الوقت على الحد من البطالة. ولا يقتصر ذلك على العاملين فى قطاع الإنتاج، بل وأيضا فى أجهزة الدولة مع توفير الدقة فى البيانات والمعلومات. ورغم أن مشروعات الخطة حددت المتطلبات من القوى العاملة عددا وتخصصا، فإن طول فترة التعليم والتدريب للفرد اقتضت إعادة النظر فى المنظومة التعليمية فى ضوء اتجاهات التنمية فى المستقبل حتى لا تتعثر الأنشطة الإنتاجية المستجدة بسبب عدم ملاءمة العمالة المتاحة. فاستعان معهد التخطيط القومى بمنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية التى كانت تعمل على مد الجسور بين اليونسكو المهتم بالتعليم ومنظمة العمل الدولية المهتمة بالعمالة. وبدأ معهد التخطيط القومى فى 1962 مشروعا بحثيا حول التخطيط طويل الأجل للقوى العاملة. وكان إنشاء المعهد ذاته وكذلك معهد الإدارة العليا وكلية الاقتصاد والعلوم السياسية فى بداية الستينيات من الأمور الضرورية لتحقيق متطلبات دعم أساليب التخطيط وتطبيقه. وإضافة إلى عملية التحول الاشتراكى ثم إنشاء المعهد الاشتراكى تقرر تعزيز عملية الرقابة وتدقيق البيانات. فتحول فى 1964 ديوان المحاسبة المقتصر على مراقبة المالية العامة إلى جهاز مركزى للمحاسبات ليتابع تنفيذ الخطة وتقييم الأداء، وضمت مصلحة الإحصاء والتعداد إلى جهاز التعبئة العامة فى جهاز مركزى.

•••

غير أن الأسلوب الذى وضعت به الخطة اعتمادا على الموازين السلعية فى المقام الأول، ومحاولة تأكيد اهتمام حكومة الثورة برفاهية قوى الشعب العاملة، أديا إلى ابتعاد كثير من المتغيرات الاقتصادية عن أهدافها رغم اقتراب هدف الدخل القومى من معدله المنشود. فقد أدى تركيز المخططين على القطاعات الإنتاجية ذات العائد المرتفع إلى عدم حصول القطاعات الخدمية على نصيبها الواجب. وتوسعت هذه القطاعات لتفى بمتطلبات التحول الاشتراكى فتجاوزت المستويات المحددة لها وتجاوز الاستهلاك الحكومى القيم المحددة له، وساهم فى زيادة الأجور، فتجاوز إجمالى الاستهلاك هدفه بحوالى 15%. أما القطاعات الإنتاجية فتوقفت عند حوالى ثلثى هدفها. وكما أشرنا من قبل أدت انتهازية قطاعات الوساطة إلى رفع غير مبرر فى الأسعار أثر على قدرة الأموال المخصصة للاستثمار على إنجاز ما قدّر لها. واجتمع ارتفاع الأسعار ومحدودية الادخار المحلى إلى تفاقم الديون الخارجية التى لجأت إليها المنشآت القائمة بالاستثمار والإنتاج دون توفر حصر شامل لها والتحقق من سلامة شروطها وجدواها.

•••

لذلك تقرر التريث فى اعتماد الخطة الخمسية الثانية التى وضعت بنفس الأسلوب السابق ولم تقدم حلولا جذرية لها. لذلك قرر نائب الرئيس زكريا محيى الدين بعد توليه رئاسة الوزارة تاركا رئاسة الجهاز المركزى للمحاسبات الذى أشرف على إقامته فى 1964 بدء الإصلاح بالتأكيد على تطوير الجهاز الإدارى وإطلاق حرية وحدات قطاع الأعمال مع تقييم دورى لأدائها. وشكل مكتبا فنيا كلفنى بإدارته للاستفادة مما يتيحه لى موقعى كرئيس للإدارة المركزية للخطة فى الجهاز، ثم انتقالى لإدارة معهد التخطيط القومى فى 1966. وتتلخص الخطوات التى اتبعها فى الآتى:

(1) تحليل تقرير وزارة التخطيط عن متابعة نتائج تنفيذ الخطة الأولى، وهو ما ساهم فيه المكتب مساهمة فعالة. (2) إعداد وزير المالية، د. نزيه ضيف (الذى كان يرأس شعبة الحسابات القومية فى وزارة التخطيط وساهم فى إعداد الخطة الأولى فى نهاية مراحلها) دراسة حول الفجوة التضخمية. وقد أعددت مذكرة بشأنها ناقشها معى السيد/ زكريا بدقة رغم تضمنها تفاصيل علمية دقيقة. (3) كلف مختصين بحصر المديونيات الخارجية وطلب رأيى فيها. وكنت قد طورت نماذج أعدها خبير هندى للأمم المتحدة أثناء عمله بمعهد التخطيط. وأوضحت هذه الدراسة أنه إذا تجاوز سعر الفائدة معدل نمو الدخل القومى فإن مستوى الدخل بعد السداد يكون أقل مما كان يمكن أن يتحقق بدونها، أما إذا تساويا فلن يتبقى له أثر صافٍ، وكأنها مولت فى واقع الأمر الاستهلاك المحلى خلال فترة الاعتماد عليها. ولما تساءل عن المشروعات التى تساهم فى تنفيذها كانت إجابتى أننا لا نرى مشروعات تخلينا عنها لتدبير سدادها. ويصبح مثلنا مثل من يبنى منزلا بالتقسيط، وبدلا من أن يدخر للسداد يبيع قطعة من أرض يملكها فيظل وضعه الكلى دون تحسن. (4) قام بناء على آراء المسئولين عن الاقتصاد المحلى برفع سلع أساسية فى مقدمتها الأرز كعلاج للتضخم، وهو ما يعنى رفعا رسميا للأسعار لمعالجة ارتفاع بقوى سوق مشوهة، كالمستجير من الرمضاء بالنار. وحينما بينت أن هذا يؤثر على استهلاك الطبقات الكادحة من سلع محلية أخرى فينكمش الطلب عليها ومن ثم الإنتاج، وأن التضخم سببه أشخاص ذكرت منهم من كانوا يصطافون فى المعمورة ببذخ، أجاب أن أغلبهم مهنيون. وأوضح هذا أن الذين يتعاملون مع السيولة النقدية المفرطة يتجاهلون أنها تدور فى دوائر شبه مغلقة. وكما فى حالة العمالة يجب معالجة التفاصيل واتخاذ تدبير تصحح عملية التوزيع تحقيقا للكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية (أو بالأحرى الاقتصادية) معا. (5) طرح منظور شامل بناء على مذكرة أعددتها فى 27 فبراير حول توقعات عام 1975 وموقف النقد الأجنبى فيها، وأقرها مجلس الوزراء، فبدأ الإعداد لتنفيذها.

والسؤال هل جاءت حرب 1967 مباشرة بعد هذا القرار مصادفة، كما جاءت حرب 1956 بعد تكليف عزيز صدقى فى أول 1956 بوضع أول برنامج تصنيع مصادفة؟ لا أستطيع الجزم برأى، ولكن الخبرة العامة أن التنمية بالاعتماد على النفس لابد لها من قوة توفر لها الأمان إلى أن يشتد عودها وتصبح سياجا متينا للأمن القومى.

خبير فى التخطيط

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات