«ميس سلون».. ابنة النظام تدين النظام! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 3:44 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«ميس سلون».. ابنة النظام تدين النظام!

نشر فى : الخميس 29 ديسمبر 2016 - 9:55 م | آخر تحديث : الخميس 29 ديسمبر 2016 - 9:55 م
يصنع الفيلم الأمريكى الهام «miss Sloane» الذى كتبه ببراعة جوناثان بيريرا وأخرجه جون مادين، بناء دراميًا وفكريًا متماسكًا مثيرًا حقا للإعجاب، ويحقق نجاحاتٍ جديرة بالتأمل فى مجال الفيلم السياسى الناضج، وينطلق من شخصيته الخاصة الفريدة، التى لعبتها باقتدار يؤهلها للترشح للأوسكار الممثلة جيسيكا تشاستين، لكى يدين النظام الأمريكى وثغراته الكبرى، والتى يمكن أن تسمح للفاسد بأن يصل إلى القمة، وتتيح الفرصة أحيانا لقلب الحقائق، والتلاعب بها.

أول مفاتيح الفيلم أنه أمريكى جدًا؛ أى أنه يتعرض لتفاصيل محددة فى بنية النظام السياسى الأمريكى، والذى يسمح بتكوين جماعات للضغط السياسى، شرعية ومعترفا بها، تقوم بحشد التأييد فى الكونجرس الأمريكى لدعم القوانين أو إسقاطها.

إنها مهنة توصف فى الفيلم بأنها الأسوأ، وهى تجمع بين النشاط السياسى، والعلاقات العامة، والدعاية، ولها أسس لممارستها، ومن خلال هذه المهنة، التى لا توجد فى دول أخرى، يدير الفيلم صراعه الطويل، وينتقل من الخاص إلى العام. وبدون فهم آليات عمل هذه المهنة، وثغرات إساءة استغلالها، لن يستطيع المشاهد استيعاب الفيلم جيدا، وقد ظهرت هذه المهنة فى أفلام أمريكية سابقة، منها فيلم هام ومميز من بطولة كيفين سباسى بعنوان casino gack.
المفتاح الثانى للفيلم هو بطلته وشخصيته المحورية التى يحمل اسمها، وهى إليزابيث سلون، وهى بتركيبتها وتفاصيلها وجديتها نموذج لا ينسى فى السينما الأمريكية، يصح أن نطلق اسمها على سيدات كثيرات. إليزابيث امرأة عاملة صارمة، تعشق عملها، وتعشق التفاصيل، ولكنها بدون حياة اجتماعية حقيقية، كل شىء لديها مرتبط بنظرية الفوز والهزيمة، والمكسب والخسارة، وكل شىء لديها مباح فى المعركة؛ فهى إذن ابنة نظام لا يحترم إلا الناجحين، ويقيس الأشياء بنتائجها.

ولكن مس سلون تتميز بأنها لا تفعل إلا ما تؤمن به، وتتحمس له، ولذلك ستدافع من خلال عملها فى مؤسسة للضغط السياسى عن الحكومة الإندونيسية، ضد مشروع قانون لفرض ضرائب على زيت النخيل المستورد من الدولة الآسيوية، حتى لا يضار المزارعون هناك.

وستنتقل، أيضًا، إلى مؤسسة أخرى للضغط السياسى، إيمانًا منها بمساندة قانون مقدم للكونجرس بالتحرى عن هوية من يباع له السلاح، حتى لا يشتريه من لديهم سجلات إجرامية (هناك 300 مليون قطعة سلاح يمتلكها أفراد فى أمريكا تحت حماية تعديل دستورى، يجعل حق امتلاك السلاح حقًا مطلقًا لا يمكن تقييده).

المفتاح الثالث للفيلم هو أن هذه الشخصية المحورية يتم توظيفها للوصول إلى دوائر أوسع فى شتى الاتجاهات، فمن خلالها يتم انتقاد نموذج إنسانى متكرر، يضحى من أجل العمل والنجاح المهنى بكل شىء آخر، لدرجة أن إليزابيث تشترى الجنس بالمال، من خلال علاقة مع شاب يدعى فورد، ولدرجة أنها تعمل 16 ساعة يوميا، وتستخدم منشطات لكى تظل مستيقظة.

كما ينتقد الفيلم تجاوزات جماعات الضغط، التى تلجأ إلى كل الوسائل لدعم مشروعات القوانين فى الكونجرس، أو إبطالها، يقوم بذلك لوبى السلاح الذى يبتز أحد أعضاء الكونجرس، لكى يدير محاسبة ميس سلون أمام إحدى لجانه.
كما تقوم سلون نفسها باستخدام أفراد للتجسس لفضح منافسيها، ويؤدى هذا التجاوز غير الشرعى فى عمل مؤسسات الضغط السياسى، إلى الفساد فى دوائر الكونجرس بين أعضائه، وتحويل عملية سن القوانين إلى مزادات يحددها المال، وتديرها الامتيازات والرحلات التى تقدم لأعضاء الكونجرس، لدعم قانون ما، أو لرفضه، وتقول سلون بوضوح إن المشكلة فى «النظام»، الذى يمكن أن يتيح للفاسدين أن يصلوا إلى القمة.

وهكذا تقوم ابنة لهذا النظام بمحاسبته وفضحه، والشخصية الأساسية هنا ليست لديها مثالية، وإنما هى شخصية رمادية أكثر واقعية، وكل ما تتميز به هو أنها استخدمت ثغرات القانون والنظام، للانحياز لقانون سيراقب التدفق الكامل للأسلحة فى أيدى الأفراد.

أما المفتاح الرابع لقراءة الفيلم فهو أنه يحول السياسة إلى لعبة، وهو معنى آخر خطير، فالقوانين لا تمر لأنها عادلة أو لأنه تمت دراستها، أو لأن الأغلبية تنحاز إلى القانون الأفضل، ولكنها تمرر لأن مؤيديها نجحوا فى الفوز بلعبة تحددها الثروة، وتحددها جماعات الضغط، وتحددها أيضا وسائل الإعلام.

إنها مباراة يقودها الإيمان الشخصى بقضية ما، مثلما هو الحال عند ميس سلون، أو البيزنس عند شركات السلاح، أما العناوين الكبرى فى الديمقراطية الأمريكية، مثل المجالس المنتخبة، ومثل بنود الدستور، وتعديلاتها، ومثل المجالس الأخلاقية والقانونية، التى تحاسب الخروج على القانون، فهى تتحول هنا إلى «أدوات» فى اللعبة، وهكذا يمكن أن نفهم، مثلا، المناظرة بين مس سلون، وغريمها ممثل شركة ضغط لوبى السلاح، حول مواد الدستور.
وهكذا يسخر الفيلم من رئيس لجنة محاسبة ميس سلون فى الكونجرس، بعد أن تكشف الأخيرة أنه تم توظيفه لصالح لوبى السلاح، وهكذا نرى أيضًا وسائل الإعلام وهى تشجع «اللعبة الحلوة» بين المتصارعين، المهم هو استمرارها، سواء فى صورة مناظرات، أو محاكمات. سواءٌ لديهم أن تفضح ميس سلون مأساة صديقتها إزمى على الهواء، أو أن تصبح ميس سلون نفسها متهمة، أو أن ينتقل الاتهام إلى رئيس اللجنة التى تتهمها.

الإعلام سيكون دوما هناك، وكأنه يراقب مباراة لا تنتهى، ولعل هذه الرؤية الواسعة، تجعل من فيلم «ميس سلون» أحد أجرأ وأقوى الأفلام السياسية الأمريكية؛ لأنها تتطرق إلى بينة النظام ذاتها، وتفعل ذلك عبر دراما قوية، ومن خلال حبكة معقدة، وليس عن طريق الصوت العالى المباشر.

نحن فى النهاية أمام سيناريو ذهبى، ربما ينال ترشيحًا للأوسكار، كتابة ناضجة تمتلك خيوط الدراما، وتنتقل بذكاء من دائرة إلى أخرى، فلا تفلت فكرتها، ولا شخصيتها، ولكن تعمق الاثنين معًا، وتتيح هذه الدراما صراعا متواصلا، بل وتقدم مفاجآتها على الطريقة الأمريكية الاستعراضية، مما يتيح لكل الممثلين أن يقدموا أدوارا جيدة، بإدارة مخرج مميز.

وبالطبع، فإن جيسيكا شاستين فى مقدمة الصورة، لولا إجادتها لانهار البناء تمامًا، كان واضحا أن جيسيكا تعمل على أدق التفاصيل، مثل الشخصية التى تمثلها، من تعبيرات الوجه الصارمة، حيث تبدو وكأنها تمتلك قناعا لا يكشف أبدا عن نواياها، وصولا إلى مشيتها المستقيمة، ورأسها المرفوع، وقد كان فى صالح الدراما عمومًا أن تقدم بكل نقاط ضعفها، إنها ليست بطلة «سوبر»، ولكنها ابنة نظام قانونه البيع والشراء، وتحويل كل شىء إلى مباراة، وإلى سباق لا يعترف إلا بتقديم الجائزة للفائز الأول بمفرده، وقياس الأمور بحسب نتائجها النهائية، إنها جديرة بالعيش فى هكذا مجتمع؛ لأنها اكتشفت أنها فى «لعبة»، واكتشفت كذلك قوانين اللعبة، وسيكون المشهد الأخير هو خروجها من السجن، ربما لتمارس اللعب من جديد.

«ميس سلون» عمل كبير وخطير، أسلحته الدراما القوية، والفكرة الانتقادية الجريئة، فيلم عن لعبة السياسة، مثلما كان فيلم «الجمال الأمريكى» عن لعبة الحياة الاجتماعية المزيفة، كلاهما تشريح فى العمق، مؤلم ومزعج، ولكنه صادق ومؤثر.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات