تحدٍ تثقيفى تاريخى أمام الجميع - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:30 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تحدٍ تثقيفى تاريخى أمام الجميع

نشر فى : الخميس 30 يناير 2014 - 5:30 ص | آخر تحديث : الخميس 30 يناير 2014 - 5:30 ص

الذين آمنوا ويؤمنون بأن مطالب الديمقراطية، التى انطلقت منها ثورات وحراكات الربيع العربى، لن يوهنها الزمن ولن تطفئ جذوتها عثرات المراحل الانتقالية، يحتاجون أن يمعنوا النظر فيما يمكن أن يكون أصعب وأعقد تحد يقف فى وجه الانتقال العربى نحو الديمقراطية. هذا التحدّى يتمثَّل فى نوع العقلية التى يتعامل بها الإنسان العربى مع محيطه الاجتماعى. ذلك أن بناء وترسيخ وتطوُّر النظام الديمقراطى فى أيّ مجتمع يتطلُّب وجود عقلية مجتمعية عامة تتعامل مع الحياة السياسية والإجتماعية والثقافية من خلال الآتى:

القدرة على التحليل الموضوعى الناقد تمهيدا للتجاوز نحو الأفضل والأكثر قبولا، ممارسة المرونة والتسامح والاحتواء فى التعامل مع القضايا ومع الآخرين، ممانعة الانزلاق نحو الخضوع للغرائز والانفعالات البدائية، العيش فى الحاضر والبناء للمستقبل، الرفض التام لممارسة الإقصاء والتهميش لأى جماعة.

•••

السؤال المفصلى الذى يجب أن يطرح وأن يجاب عليه دون الالتفات لما قاله ذلك المستشرق المتحامل أو ذاك المستغرب المسحوق هو الآتى:

هل أن العقلية العربية، التى كوَّنتها معتقدات وأفكار وعادات وسلوكيات وتصورات وممارسات المجتمعات العربية عبر القرون، ستكون قادرة على أن تختزن داخلها متطلبات العقلية التى بدونها تفسد الديمقراطية فى المجتمعات؟

الذين كتبوا عن خصائص العقلية العربية، وهم كثيرون، أبرزوا الخصائص التالية لهذه العقلية: إنها عقلية تبالغ فى تمجيد الماضى ورموزه لتقع فى النهاية أسيرة فكر وممارسات ذلك الماضى الذى يؤدى عدم دراسته بصورة موضوعية ناقدة إلى هيمنة الماضى وشلل الحاضر، إنها عقلية لم تستطع غربلة تراثها لتتجاوز قاعدته المبنيَّة على تصور رأسى للعالم كما يصفه المفكّر الإسلامى د. حسن حنفى على أنه وضع «أولوية الله على العالم فى الخلق والفيض، وأولوية النَّص على الواقع، وأولوية النقل على العقل، وأولوية الحاكم على المحكوم، وأولوية الرجل على المرأة»، وما يهمنا بالنسبة للديمقراطية هو أولوية الحاكم على المحكوم وأولوية الرجل على المرأة، إذ إنهما يتناقضان تماما مع أسس ممارسة الديمقراطية.

لا أعتقد أنه قد وجدت مجتمعات تشابك فيها إلى أقصى الحدود هيمنة التاريخ مع هيمنة التراث، فأوجد حالة من الإرباك فى عقلية المجتمع، مثلما حدث فى المجتمعات العربية.

إشكالية اختلاط التاريخ بالتراث، كما يؤكّد كاتب الفلسفة البريطانى أ. س. جريلنج، أنه فى حين أن دراسة التاريخ يمكن أن تكون مفتوحة وشاملة وتهدف لمعرفة الحقيقة فإن التعامل مع التراث ينطلق من اعتقادات إيمانية شبه مقدَسة لا تتردَّد فى أن تتلاعب بمادة التاريخ حذفاّ ومبالغة واختراعا وتشويها لتبنى اساطير حول هوية الأمة أو أصولها أو ولادتها. ولذلك يلحُ هذا الكاتب على وضع حاجز بين التاريخ والتراث ليسهل التعامل مع كل منهما.

موضوع دور التاريخ والتراث فى تكوين العقلية العربية ليس موضوعا أكاديميا، إذ إننا نعيش تأثيرهما فى كل مناحى حياتنا اليومية وفى كل نظراتنا للأمور، بما فيها السياسة وبالتالى بما فيها محاولة الانتقال لنظام ديمقراطى.

هنا نواجه مشكلتنا الحقيقية. ذلك أن تاريخنا وتراثنا قد ارتبطا عبر القرون بفكر وممارسات القبلية والعشائرية والاستبداد السياسى والفقهى والاجتماعى، بتقديم الحاكم على المحكوم، بإطاعة شبه عمياء لولى الأمر، بخوف مريض من مساءلة السلطة، بهيمنة ذكورية على المرأة وتشكيك فى قدراتها العقلية والنفسية والحياتية، فى الفهم الخاطئ الانتهازى لموضوع الفرقة الناجية الوحيدة التى تملك الحقيقة المطلقة وبالتالى فى حقها أو واجبها فى الاستئصال المعنوى للآخر المختلف، فى أشياء كثيرة لا يسمح المجال لتفصيلها.

•••

والنتيجة لكل ذلك هو بناء عقلية لا ترى مشكلة فى الظلم ولا فى الاستبداد ولا فى الفروق المعيشية المعيبة بين الناس ولا حتى فى شتَّى أنواع العبودية لشتّى أنواع السلطات والرموز، وعلى الأخص فى حقول السياسة والدين والاجتماع. لنستذكر قول المهاتما غاندى الشهير بأن «الحرية والعبودية هما حالات عقلية ذهنية»، لنرى ما فعل التاريخ والتراث بنا وهيأنا للتعايش مع عار العبودية.

والحل؟ هل نستسلم لذلك القدر، قدر إملاءات العقلية المليئة بالعلل التى كونها ذلك التاريخ وذلك التراث؟ الجواب القاطع هو كلاّ. أولا، لأن هناك الكثيرين ممّن عملوا منذ القرن التاسع عشر لإخراج العقلية العربية من المنزلق الذى عاشت فى قاعه عبر القرون. لكن تلك المحاولات ستحتاج لسنين إن لم يكن لقرون.

وثانيا، هناك حاجة ملحّة فى اللحظة الراهنة، لحظة الربيع العربى فى صعودها وهبوطها، لإقناع أكبر عدد من جماهير الأمة العربية باختزان على الأقل الحدّ الأدنى من متطلبات الانتقال الديمقراطى فى عقليتها الجمعية، بمحاولة القبول، إبّان الفترة الانتقالية التى تعيشها الأمة حاليا، بتعايش تلك المتطلبات الديمقراطية مع ما ترسَّب فى الذَّهنية العربية عبر العصور من متطلبات القبلية والمذهبية من جهة ومن مقولات التراث والتاريخ المليئة بالأخطاء والعلل من جهة أخرى. نؤكُّد مرة أخرى بالاكتفاء حاليا بتعايش متطلبات الديمقراطية مع المتطلبات الأخرى التى بناها التاريخ والتراث، وليس الحديث عن الاصطدام والتضاد والاجتثاث بين تلك المتطلبات.

عملية الإقناع تلك هى التحدى الأكبر أمام عقلاء المساجد والحسينيات والأحزاب والإعلام ومستعملى شبكات التواصل الإجتماعى. إنه تحدُّ تثقيفى تاريخى عسير، يتطلب الكثير من الحكمة والصّبر، ولكنّ مواجهته أصبحت ضرورة حياتية.

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات