خطاب النخبة.. بين الإرشاد والترشيد - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:21 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

خطاب النخبة.. بين الإرشاد والترشيد

نشر فى : الأربعاء 30 مارس 2011 - 9:52 ص | آخر تحديث : الأربعاء 30 مارس 2011 - 9:52 ص

 أثارت عملية الاستفتاء على التعديل الدستورى (ولا أقول تعديل الدستور، فقد أبطل العمل به بقيام الثورة) لغطا كثيرا، ليس لأن البعض قال نعم والبعض الآخر قال لا، وغاب البعض عن الصناديق فيما يبدو أن مرجعه الأساسى ضيق الوقت، بل لأن الأمر بدا كما لو كان انقساما للشعب إلى قسمين نوعيين. ففى الجانب الذى أعلن فيه شباب الثورة رأيهم الرافض للتعديلات المطروحة، احتشد غالبية المثقفين أو من يطلق عليهم «النخبة». أما الجانب الآخر فقد كان الوجه البارز فيه الإخوان المسلمين، ومن خلفهم دعاة يرتزقون من التخفى وراء الحديث باسم الدين، بتفسيرات وفق أهواء لا علاقة لها بصحيحه، ولا أساس لها من التفكير العقلانى. وكان مصدر اللغط، تبسيطا شديدا اختزل الفريقين إلى مواجهة بين دعاة الثورة ودعاة الدين، وكأنهما نقيضان، يعنى فوز أحدهما فى مسألة محددة، تعرض الطرف الآخر لهزيمة مطلقة. واستطرادا من ذلك تردد أن الثورة باتت فى خطر، ومضت النخبة تلقى اللوم على أدعياء الدين، وتحذر من انزلاق إلى المجهول.

وقد تابعت قنوات الإعلام التى تنقل إلينا آراء النخبة، رغم أن غالبية من يملكونها أو يسيرونها ليسوا على القدر الكافى من الثقافة الذى يسمح لهم بإعداد أطر عرض الآراء الجديرة بالتنويه عرضا سليما، لا يكتفى ببيان وجهات النظر، بل يفسح المجال لعرض الأسباب الداعية لتبنيها، وجدواها بالنسبة لمصالح مختلف فئات الشعب. ولعل ما يلفت النظر أن غالبية النخبة استدرجت إلى الفخ الذى نصبه أولئك الذين يفرقون بين الصواب والخطأ بنسبتهما إلى الإيمان والكفر، ولو على سبيل المزاح كما ادعى أحدهم، ليرهبوا من فقدوا متع الدنيا بالحرمان من نعيم الآخرة. كانت السمة الغالبة للتعليقات على نتائج الاستفتاء هى التنديد بحصول الأصوات التى أجابت بالإيجاب على الأغلبية، واتهام الإخوان على وجه الخصوص بأنهم كانوا وراء تضليل الجماهير التى اصطفت أمام اللجان، ربما لأول مرة فى حياتها، ودفعها للقبول حيث كان يجب أن تستجيب لدعواتهم إياها بالرفض، وهو منطق أقرب فى جوهره إلى منطق دعاوى التكفير والتزوير.

فى أحاديث متفرقة، لا أدعى أنها تعتبر عينة ممثلة تمثيلا صادقا للشعب، اتضحت لى أسباب بديلة، قلَّ من أولاها اعتبارا. من ذلك من برر تأييده التعديلات لأنها تعنى مطالبة شعبية بتوارى الجيش عن السلطة، لئلا ينتهى الأمر بأن يغتصب الثورة من أصحابها، دون التزام بغاياتها أو تحقيق ما قامت الثورة من أجله، وهو إعادة السلطة إلى الشعب بجميع أطيافه، والإبقاء على الصورة النقية التى بدا بها الجيش، حينما وقف حارسا للأمن والأمان الذى تهدد بشكل لم يكن هناك من سبيل آخر لتوفيره فى وجه من خانوا الأمانة، وأرادوا تخيير الناس بين التوريث والضياع.

هناك من يحمل تقديرا خاصا للجنة المكلفة بالتعديلات، ويكنّ احتراما لشخص رئيسها الذى ظل واحدا من الرموز البارزة لنقاء القضاء، والذى لم يحجب كلمات حق وأحكام عدل، فى وقت آثر الكثيرون الصمت كارهين. هؤلاء قالوا نعم للأشخاص قبل العبارات، فرحين بأنهم وجدوا أخيرا من يقولون له نعم من القلب. هناك من استعان بمنطق يبدو ساذجا، ولكنه يعبر عن أقصى ما تجود به قريحتهم، يقضى بأن النظام الكريه زال، ونحن الآن نعيش بدايات نظام اختاره الشعب، ومن غير المعقول أن يكون الرد على أول ما يرجع فيه إلى الشعب هو الرفض.

فهل يعقل أن يضيع هذا النظام وقت الناس ويتحمل تكاليف فى وقت تراكمت فيه الأعباء، فيما ليس مقبولا منه؟ لقد أجاب هؤلاء بنعم للنظام الذى قام على أنقاض الذين تجمعوا بالملايين لإسقاطه. الغريب أن تعقيبات النخبة تغاضت عن تلك الحالات وغيرها، فأكسبت الإخوان والأدعياء حجما أضعاف ما هم عليه أو ما قاموا به فعلا. يذكرنى ذلك بمن انشغلوا بمآسى غزة وعار الجدار عن حقيقة القضية الفلسطينية التى عبث بها كل من السلطة وحماس، وهو ما صب فى نفس الاتجاه.

إن القضية الأساسية التى نواجهها هى بلورة رؤية مشتركة لمستقبل مصر الذى نريد العيش فى ظله، بعد أن خرب النظام السابق البنية الأساسية المجتمعية التى تسمح بالتعبير عن مصالح المجتمع بكليته وفئاته. وفى ظل الظلم الذى حاق بالغالبية المسحوقة، اندفع الجميع يطالبون بحقوق مهضومة، ويحملّون الرئاسات مسئوليتها، بعد أن عاشوا طويلا يعانون من تسلط الرؤساء والحكام. فتولدت لديهم عادة انتظار الفرج من عطايا «الناس اللى فوق»: الطلبة يريدون التخلص من عمداء كلياتهم ورؤساء جامعاتهم، والعمال يتمردون على إدارات شركاتهم، والمواطنون على المسئولين عن محلياتهم، ليكشفوا جميعا عن مدى الإجحاف الذى حاق بهم فى عهد كان يضيع الوقت فى مناقشة أرقام معدلات النمو وأحجام الاستثمارات الأجنبية، ليكافأ المسئولون عنها برئاسة لجان دولية ووظائف عليا فى مؤسسات يفترض أنها تدعم التنمية الحقة.

لقد أظهرت الاحتجاجات المتعددة أنه فى ظل غياب المنابر التى تناقش فيها مشكلات الدولة ومتطلباتها التنموية، لا ترى كل فئة بديلا لرفع العقيرة بالمطالبة بالمصالح الفئوية، غير مدركة أن هذا السلوك يعرقل ترميم المصالح الخاصة والعامة، وهو ما يؤدى فى النهاية إلى تشويه القواعد التى تبنى عليها المؤسسات الديمقراطية التى تتولى النهوض بشئون المجتمع ومتطلبات التنمية.

عندما انطلقت ثورة يوليو 1952 واجهت مشكلة التوارى خلف قضية الاستقلال التى قامت من أجلها ثورة 1919 ففوضت الأمة وفدا يتحدث باسمها، فإذا بالأحزاب يتزعمها أصحاب الجاه الذين يملكون الأرض ومن عليها، ويتمسحون فى الأعتاب الملكية، ضامنين لها ولاء شعب أنهكه الفقر والجهل والمرض. أوضحت الثورة أن المشكلة لا تقتصر على إجلاء المستعمر الأجنبى، بل لابد من القضاء على تحالف الإقطاع والاحتكار مع السراى والاستعمار حتى يسترد الشعب حقوقه وكرامته. ولم تكن هذه الأمور من بين مفردات الخطاب السياسى الذى توجهه النخب السياسية للجماهير، بل كان خطابها هو النقيض الذى يحقق لها مصالحها المضادة لمصالح الشعب الذى لم تكن تشكيلاته الريفية أو طبقته الوسطى التى عمادها الموظفون الحكوميون، قادرة على استيعاب انعكاساتها السلبية عليها. وكان أن أنشأت الثورة وزارة الإرشاد القومى لتعريف الشعب برؤيتها لإقامة مجتمع الكفاية والعدل. وكان لمفردة الإرشاد سابقة هى الإرشاد الزراعى الذى يزود الفلاحين الذين تنتشر بينهم الأمية، بالمعرفة اللازمة لتحسين إنتاجهم. وأقيمت التعاونيات لتمكنهم من الحصول على مستلزمات الإنتاج بعيدا عن الاستغلال، وأشركوا فى وحدات الاتحاد القومى (ثم الاشتراكى) لمناقشة شئونهم. غير أن العنصر الحاسم كان خطابات عبدالناصر التى كانت تناقش مختلف القضايا المحلية والخارجية. وحاول السادات أن يتبع نفس الأسلوب، الذى جعل الأجهزة السياسية والتنفيذية بمثابة سكرتارية بعد أن استولى بموجب دستور 1971 على جميع السلطات فمكنه من القيام بثورته المضادة.

وعندما آل الأمر إلى مبارك اتضحت خطورة هذا الأسلوب لأنه يفتقد القدرة على التفكير والتعبير عن القضايا اليومية. وبدا هذا عندما دعاه وفد مجلس الأمة للترشح للرئاسة، فأبدى أسفه لمصرع السادات وأنه لم يكن يتوقع حدوثه «على الأقل مش دلوقت»، وكأنه كان أمرا سابقا لأوانه. لقد آن الأوان لتترك فصائل النخبة التنابذ فيما بينها والانشغال بالأحداث الصغرى، وننشغل فى الحوار الوطنى القضايا الكبرى التى ترسم معالم مشروع نهضوى حضارى، يكفل التوافق الاجتماعى ويجدد مسار التنمية المستدامة ليأتى الدستور والأحزاب السياسية دعامات لدولة يكتب لها البقاء والارتقاء.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات