ظاهرة التقدم والتراجع فى بلاد العرب - علي محمد فخرو - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:15 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ظاهرة التقدم والتراجع فى بلاد العرب

نشر فى : الخميس 30 مارس 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الخميس 30 مارس 2017 - 9:35 م

شعار التقدم الإنسانى الذى طرحه عصر الأنوار الأوروبى منذ حوالى ثلاثة قرون، بل وقدمه كحتمية من حتميات التطور البشرى نحو الأفضل والأسمى، يخضع الآن للتساؤل والشك.
فالذين طرحوا الشعار فى البداية اعتقدوا بأنه كلما زادت المعرفة وتقدمت شتى العلوم وتطورت وتحسنت التكنولوجيا، فإن الإنسان سيصبح أكثر عقلانية واتزانا فى الأحكام والتصرفات وأكثر تحضرًا. وهذا، حسب رأيهم، سيقود إلى عالم أكثر رخاء وسلاما وسعادة، إذ إن العلم سيؤدى إلى أنسنة البشر.
***
دعنا مما يقوله المفكرون الغربيون عن موضوع التقدم فى بلادهم، إذ بالرغم من التطور الهائل فى المعلومات والمعرفة والتكنولوجيا الذى تحقق فى بلدانهم، فإنهم لم يحصدوا إلا الحروب الكونية والعبثية، واستعمار الآخرين، والأزمات الاقتصادية المتعاقبة، وصولا فى أيامنا الحالية إلى صعود الفاشية اليمينية، وعودة الأصولية الدينية المتزمتة، ورجوع التعصبات العرقية ضد هذا الجنس أو ذاك، وانتشار أوبئة المخدرات والبغاء والجرائم. من هنا مراجعة الكثيرين لمفهوم التقدم برمته.
بدلا من ذلك دعنا نتفحص بإمعان موضوع التقدم فى بلاد العرب، إذ ستصدمنا المفارقات وسنكتشف لأنفسنا، على غرار ما اكتشفه الغرب، بأن التقدم فى ساحات المعرفة والعلوم والتكنولوجيا لا يقود بالضرورة إلى استعمال العقل والمنطق، ولا إلى ارتفاع مستوى القيم والأخلاق أو الالتزام بمصالح الأوطان.

المفارقة الأولى تتمثل فى الصورة التالية: المنتمون للقاعدة، أو لبناتها داعش والنصرة وغيرهما، يستعملون أحدث وسائل الاتصال الإلكترونى وأكثر الأسلحة الحربية تطورا، وذلك بكفاءة مبهرة تفوق حتى كفاءة مخترعيها. كما أنهم يبرعون بصورة مذهلة فى الاستفادة من كل ما توصل إليه علم النفس الجماهيرى العصرى، وفى الاستعمال المبدع لآخر صيحات العلاقات العامة المضللة، وفى استغلال كل ما هو غريب وشاذ فى التراث الفقهى الإسلامى بعبقرية انتهازية فريدة، وذلك كله من أجل الهيمنة التامة على عقول الشباب المسلمين عبر قارات العالم كله.
لكن ذلك التفاعل المدهش فيما بين أفراد ما يسمى بالحركات الجهادية التكفيرية ومنجزات العصر المعرفية والعلمية والتكنولوجية لم يمنع أفرادها من تفجير الأحزمة الناسفة فى التجمعات الجماهيرية الآمنة، سواء فى المستشفيات أو الأسواق أو المدارس وحتى فى بيوت الله، ومن سبى النساء وبيعهن كالسلع، ومن تهجير الملايين من مدنهم وقراهم ومزارعهم، ومن حرق وقطع ءوس المكبلين المغلوبين على أمرهم.
كل منجزات العصر العلمية والفنية لم تمنع أولئك المستوعبين لها والمستعملين لكل أدواتها عن التراجع إلى أدنى مستويات البدائية وأعلى توحشها.
***
المفارقة الثانية تتلخص فى الآتى: لقد انتشر التعليم المدرسى والجامعى بين ملايين العرب والمسلمين. ولقد أطلعت الملايين على منجزات الدولة الحديثة فى بنائها على أسس المواطنة والتساوى فى الفرص والاحتكام إلى القانون، وبالتالى إعلاء الولاء للوطن فوق كل ولاء آخر، وشاهدت الملايين يوميا عن طريق التليفزيون أنواعا مبهرة من مظاهر التقدم الحضارى فى مجتمعات الآخرين، ومع ذلك لم يمنع كل ذلك ارتداد أعداد هائلة من العرب والمسلمين إلى الولاءات الدينية والمذهبية المتحجرة المتصارعة البدائية، وإلى ولاءات ما قبل قيام الدولة، من مثل القبلية والعشائرية والمناطقيه العرقية، وذلك كله على حساب الولاء الوطنى المشترك.
مرة أخرى، لم يمنع الاحتكاك بمنجزات العصر الفكرية فى السياسة والتنظيم الإدارى، والتعرف على فوائد التطبيقات العقلانية من قبل الآخرين، لم يمنع تراجع كل ما وصل إليه العرب من تقدم، ولو كان محدودا، إلى الوراء، وفى شكل تقهقر سريع يهدد بأن تصبح الأمة العربية خارج التاريخ وعلى هوامش مسيرة الإنسانية.
اليوم، نرى حتى الممارسات الديمقراطية المحدودة تنتقل إلى عوالم الاستبداد، وحقوق الإنسان العربى المتواضعة إلى عوالم قبضة البطش الحديدية، والمشاركات المجتمعية السابقة، وحتى لو كانت مقيدة وموسمية، تدخل فى متاهات الشروط التعجيزية والمذلة.
***
يقول المفكر والفيلسوف البريطانى جون جرى بأن الذين لا يزالون مؤمنين بفكرة وحتمية التقدم هم فى عصرنا (عصر الغرب) ينشدون فى التكنولوجيا ما كانوا ينشدونه من قبل فى الأيديولوجيات، ومن قبل ذلك فى الدين: إنهم ينشدون الخلاص والإنقاذ من أنفسهم. يا له من تصوير مروع لنهاية بائسة لإنسان الغرب.
ذلك أن التكنولوجيا أثبتت دائما أنها بجانب ما تحمله من فوائد للإنسان، فإنها تحمل مخاطر وأهوالا تدميرية هائلة، وبالتالى لا يمكن الاعتماد عليها لخلاص الإنسان من شياطين نفسه.

إذن، فماذا عن الإنسان العربى؟
ما هو الحقل الذى سينشد فيه خلاصه من نفسه المأزومة المحبطة التائهة فى لحظته الراهنة؟ وهل سيستطيع، وهو فى لحظات أتون الجحيم والفوضى والدمار التى يعيشها، أن يحل إشكالية التقدم والتقهقر تلك؟ لماذا تتقدم المجتمعات العربية خطوة، ثم تتقهقر خطوتين؟
مفكرو الغرب يفتشون عن حلول فلسفية جديدة لإشكاليتهم، فهل نأمل فى أن ينبرى المفكرون العرب لإيجاد حلول فلسفية وثقافية جديدة لحل إشكاليتنا؟

علي محمد فخرو  شغل العديد من المناصب ومنها منصبي وزير الصحة بمملكة البحرين في الفترة من 1971 _ 1982، ووزير التربية والتعليم في الفترة من 1982 _ 1995. وأيضا سفير لمملكة البحرين في فرنسا، بلجيكا، اسبانيا، وسويسرا، ولدي اليونسكو. ورئيس جمعية الهلال الأحمر البحريني سابقا، وعضو سابق المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة العرب، وعضو سابق للمكتب التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات الوحدة العربية، وعضو مجلس أمناء مؤسسة دراسات فلسطينية. وعضو مجلس إدارة جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبييشغل حاليا عضو اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط بالبنك الدولي، وعضو في لجنة الخبراء لليونسكو حول التربية للجميع، عضو في مجلس أمناء الجامعة العربية المفتوحة، ورئيس مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث.
التعليقات