«متحف البراءة».. عن ذاكرة الحب والكتابة والأشياء - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:49 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«متحف البراءة».. عن ذاكرة الحب والكتابة والأشياء

نشر فى : الخميس 30 مارس 2017 - 9:40 م | آخر تحديث : الخميس 30 مارس 2017 - 9:40 م

هى بالتأكيد رواية عن الحب، ذلك الشعور السحرى الذى يمكن وصفه، ولا يمكن تفسيره، ولكنها تتجاوز ذلك لكى تصبح رواية عن «الذاكرة» بكل تجلياتها: ذاكرة تركيا فى سنوات السبعينيات، وذاكرة المشاعر التى لا تموت، والتى تظل معنا حتى النهاية، وذاكرة الأشياء التى تبقى، وذاكرة الكتابة عموما، وفن الرواية خصوصا، الذى يعيد تجميع التفاصيل، ويجعل لها معنى وقوامًا ووجودًا مستقلًا وموازيا للواقع نفسه.
أتحدث عن رواية «متحف البراءة» لروائى نوبل التركى أورهان باموق، والتى صدرت ترجمتها لعبدالقادر عبداللى عن دار الشروق، وهى عمل ضخم تتجاوز صفحات ترجمتها العربية 600 صفحة، ومدارها الزمنى يصل إلى ربع القرن بداية من العام 1975، حيث لقاء بطل الرواية الثرى الشاب كمال ممتاز، بحبه الكبير فسون، الفتاة الفقيرة التى تصغره بـ18 عاما، رفيقة الطفولة واللعب، مرورا بعلاقته الجسدية والروحية معها حتى بعد زواجها، وانتهاء بتفكيره فى أن ينشئ متحفًا يضم كل الأشياء التى تعبر عن علاقتهما التى انتهت بموتها فى حادث سيارة، وتفكيره أيضًا فى أن يكتب أورهان باموق قصتهما فى رواية، ويحمل المتحف والرواية نفس الاسم وهو «متحف البراءة».
نحن إذن أمام دوائر ثلاث محكمة ومرسومة بيد روائى بارع: دائرة صغيرة هى «نواة» الرواية الصلبة وجوهر الرحلة، وأعنى بذلك حكاية الحب والعشق بين رجل غنى تمتلك أسرته مصانع كبيرة للنسيج، درس فى الولايات المتحدة، وينتظره مستقبل كبير بعد خطبته لابنة أسرة ثرية تدعى سيبل، وفتاة بسيطة أمها خياطة، ووالدها مدرس متقاعد، تحاول أن تدخل الجامعة فتفشل.
وهناك دائرة أكبر، وهى فكرة تحويل قصة الحب إلى ذاكرة مكتوبة فى شكل رواية، ودائرة ثالثة أكثر اتساعًا، وهى تحويل القصة إلى متحف للأشياء الصغيرة التى تمثل ذاكرة جديدة إضافية، والدوائر الثلاث مرتبطة معًا.
ويقوم باموق بلعبة سردية ممتعة، بأن يجعل نفسه شخصية فى روايته بنفس اسمه ومهنته، يعرف بطلها الخيالى (كمال ممتاز)، ويلتقى مع البطله فسون ويراقصها فى حفل خطبة كمال إلى سيبل، ويوافق فى النهاية على أن يكتب قصة حب كمال لفسون كما رواها كمال، ويحكى لنا عن مشروع كمال لإقامة متحف للأشياء المرتبطة بالقصة وتفاصيلها.
بل إن باموق يسرد الأحداث على لسان كمال، وكأنه يتبنى قصته، ولا يتحدث باموق عن نفسه، وعن ظروف تأليفه للرواية، بعد لقائه بكمال، إلا فى الصفحات الأخيرة.
لدينا إذن عدة مفاتيح مدهشة للرواية؛ حيث يمكن أن تُقرأ باعتبارها محاولة لوصف مشاعر حب غير عادية عابرة للزمن وللموت، بما يذكرنا على نحو ما بما فعله جابرييل جارسيا ماركيز فى رائعته «الحب فى زمن الكوليرا»، ومحاولة لترجمة معنى كون الذاكرة بالنسبة للإنسان حياة كاملة حيّة ومستمرة ما بقيت أوعيتها (سواء فى صورة كتابة أو فن أو متحف يحتوى على أشياء محفوظة).
كما يمكن قراءة الرواية، فى لعبتها السردية التى شرحتها سابقًا، بأنه لا توجد حدود بين ما هو «خيالي» وما هو «واقعي»، والدليل هو هذه الحيلة التى جعلت أورهان باموق الروائى يخترع شخصية كمال، فيقوم كمال بتكليف باموق/ الشخصية الروائية، بكتابة الرواية، فيتبنى باموق الروائى الكلام على لسان كمال. ثم تتواصل اللعبة بدون ترتيب بعد ذلك، حيث يتم بالفعل إنشاء وافتتاح متحف فى تركيا يحمل اسم «متحف البراءة»، يضم أشياء كمال التى جمعها فى الرواية، وكأن الخيال خلق بالفعل واقعه الخاص، وتحققت حرفيا فكرة الذاكرة ثلاثية الأبعاد فى مكان واحد: ذاكرة الحب، وذاكرة الكتابة، وذاكرة الأشياء، والثلاثة وجوه لنفس القصة، والثلاثة يتحدون الزمن، إذ إن المتحف يلغى فكرة الزمن، ويقفز فوقها، ويكثفها بجمع أشياء معا، ومن سنوات متباعدة.
الحقيقة أن فكرة المتحف باعتباره كائنا حيا، كما استفاض باموق فى وصفه فى روايته، لا تختلف عن فكرة فن الرواية باعتباره مستودع الأشياء والحكايات والمشاعر؛ أى أن المتحف فى روايتنا هو سرد مادى يختلف فحسب شكليا عن السرد الروائى المكتوب، ولكنه يقوم بنفس المهمة فى تخليد المشاعر الإنسانية، وفى محاولة نقلها عبر الزمن للآخرين.
ولذلك يقوم باموق (السارد على لسان كمال) فى كل مرة باستحضار شيء من تلك الأشياء التى احتفظ بها كمال من آثار فسون، سواء عندما كانت عشيقته، أو عندما تزوجت من مخرج سينمائى يدعى فريدون، ويقدمه لنا ليس باعتباره جزءًا من السرد، ولكن أيضًا باعتباره جزءًا من المتحف، لأنه لا فرق بين الاثنين فى معنى اللعبة الذكية والمدهشة.
ولكن أورهان باموق كروائى محترف يعرف أن السرد ليس مجرد ألعاب ذكية، وإنما أيضا مادة حياتية تحمل أفكارًا ودلالات، وقد كانت مادته عن سنوات السبعينيات ضخمة ومهمة، لدرجة قد تشعر قارئ الرواية أحيانًا بالملل من هذه المادة، ولكن منطقها الفنى حاضر ويمكن فهمه، ذلك أن التفاصيل والأشياء والأماكن لا تقل أهمية عن المشاعر والأحداث.
كما أن الرواية تعمل فى داخل شخصية كمال بنفس العمق الذى تحاول فيه أن تغوص فى تفاصيل حياة الطبقة الثرية فى تركيا فى فترة السبعينيات، والفصل الطويل الخاص بحفل خطوبة كمال على سيبل وثيقة مذهلة عن شخصيات تلك الطبقة، كما أن علاقة كمال وفسون (وهى قريبة بعيدة له) معقدة للغاية، حيث يستمر فى البداية فى العلاقة الجسدية معها، دون أن يخبر سيبل، الفتاة التى ستصبح خطيبته، وكأنه يريد أن يحقق طموح الرجل الشرقى بأن تكون له عشيقة فقيرة، وزوجة ثرية.
ولا يشعر كمال بفداحة آلام العشق إلا عندما تختفى فسون، بعد فشلها فى الالتحاق بالجامعة، وعندما يصل إليها، وهى زوجة لكاتب سيناريو، يكون أساس اقترابه منها طوال ثمانى سنوات، هو أن يكون منتجا لفيلم تقوم ببطولته فسون، ويظل المال حاضرا بين الطرفين.
إنها إذن علاقة لها أبعادها النفسية والطبقية والاجتماعية، وأسطنبول، المدينة الحاضرة بقوة فى أعمال باموق وفى هذه الرواية، ترتدى أقنعة الحداثة فى السبعينيات، ولكنها ما زالت تنظر إلى المرأة نظرة محافظة، بعد سنوات طويلة من التجربة الأتاتوركية فى الأوربة.
ربما تكون البراءة تليق بفسون أكثر من كمال: لقد ظلت تعتقد أنها يمكن أن تهزم فقرها بمسابقة للجمال، أو ببطولة فيلم، ثم ماتت فى حادث سيارة، أما كمال فهو لم يكتشف جوهرة الحب إلا عندما ضاعت منه، ولكنه دفع الثمن ألما عميقا، مثل والده العاشق القديم، وربما فى زمن آخر وبلد أخرى كان يمكن أن تنجح قصة الحب، وإن كانت النهايات الحزينة غير مستغربة فى كل الأحوال.
«متحف البراءة» رواية لا تضع الحب فى مقابل المال أو المستوى الطبقى فحسب، ولكنها تضعه فى مقابل الزمن، ومن هنا فإن الكتابة والمتحف ينتقمان من الزمن، ويحتفظان بالحكاية لكل الأجيال القادمة، لعل هذه الأجيال تكون أكثر فى حكايات عشقها، حيث لا شفاء ولا دواء إلا باستمرار العشق نفسه.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات