دوامات النسيان - بلال فضل - بوابة الشروق
الأربعاء 15 مايو 2024 5:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دوامات النسيان

نشر فى : الثلاثاء 30 أبريل 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 30 أبريل 2013 - 8:00 ص

«يا مثبت العقل يارب» تهتف هكذا من قلبك عندما ترى إخوانجيا يتصور أن طريقه للهروب من تحمل مسئولية كذب رئيسه وفشل جماعته لن يكون إلا بنبش قبر جمال عبد الناصر وكيل الإتهامات له، وتهتف به أيضا عندما تجد ثائرا شابا يتصور أن الرد المفحم على ذلك الإخواني يجب أن يكون بعبارات من نوعية «هنرجعكو السجون زي عبد الناصر.. هو اللي عرف يشكُمكم ويلبِّسكو الطُّرَح»، كأن مشكلة ذلك الثائر ليست مع الظلم في كافة أشكاله، بل مع الظلم أبو دقن بس. 

 

 

صدق أو لا تصدق، لن يحل مشاكل الإخوان التي أوقعوا أنفسهم فيها قيامهم بلعن سنسفيل عهد عبد الناصر ليل نهار، ولن يحل مشاكل معارضيهم أن ينسوا أن تلبيس عبد الناصر الطُّرح للإسلاميين حوّلهم إلى شهداء ومظاليم وقام بتعطيل إكتشاف المصريين لحقيقة شعاراتهم ستين عاما لم نحقق فيها بالمناسبة الكثير، نعم حلمنا فيها بالكثير، وكانت أحلامنا نبيلة ورائعة لكننا من أجل تحقيقها دهسنا أثمن قيمة إنسانية، هي قيمة الحرية، فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولم يذهب ضحية هذا الدهس الإخوان وحدهم، بل ذهب ضحية له كثيرون من النبلاء والعقلاء والشرفاء الذين دخلوا السجون، ليعربد خارجها أهل الثقة والموالسة ولحس الأعتاب وتمام يافندم. 

 

 

 

لكي لا تسلم نفسك لدوامات النسيان فتجرفك بعيدا عن الحقيقة، أدعوك لقراءة شهادة الكاتب اليساري الكبير الراحل أحمد عباس صالح التي كتبها في مذكراته الرائعة (عمر في العاصفة) والتي صدرت عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، وفي أحد فصولها يحكي عن ضابط من الصف الثاني من ضباط يوليو إسمه اليوزباشي محمد أبو نار كان ميالا إلى معاشرة الكتاب والمثقفين، وقد عرفه عباس صالح على أصدقائه المقربين يوسف إدريس ومحمد عودة وكامل زهيري ونعمان عاشور، وهي معرفة نفعتهم جميعا فيما بعد دون أن يدروا ولا يحتسبوا، «ففي سنة 1959 خاصم عبد الناصر الإتحاد السوفيتي، فقرر اعتقال جميع الشيوعيين بل اليساريين بشكل عام، وكانت وزارة الداخلية بناء على أمر من عبد الناصر تُعِدُّ كشوف الإعتقال، ذات يوم زار أبو نار صديقه عباس رضوان وزير الداخلية في مكتبه، فوجد كشوف المعتقلين أمامه فقرأها ليجد بها أسماء أصدقائه وعلى رأسهم عباس صالح الذي كان العائل الوحيد لأسرته الكبيرة، فرجا الوزير أن يشطب أسماءهم قائلا «إنهم أصدقائي الحميمين وسوف يكون موقفي محرجا لو تم القبض عليهم»، قال الوزير بعد تردد أنه سيفعل تقديرا له، لكنه يحذره بأن من عادة عبد الناصر أن يقرأ الكشوف بنفسه ليشطب إسما أو يضيف إسما، وبالتالي إذا وجد عبد الناصر أسماء أصدقائه غير موجودة وأضافه لن يكون بمقدوره فعل شيئ، «وبالفعل أعيدت كتابة الصفحة التي تحتوي على أسمائنا وذهبت الكشوف ولم يتذكر عبد الناصر أي إسم منا، وهكذا نجونا من إعتقالات سنة 1959».

 

 

 

يروي أحمد عباس صالح أنه لم يعرف بالقصة إلا بعد زمن طويل من حدوثها، ثم يحكي موقفا يراه مضحكا لكني رأيته محزنا بشدة، حيث كان عند بدء الإعتقالات ظهرا على قهوة ريش مع أصدقائه عودة وزهيري وإدريس ونعمان عاشور، وأخذوا يسمعون أخبار الإعتقالات التي تتوالى، فتوقعوا أن يُعتقلوا وبدأوا يستعدون نفسيا لذلك، لكن الدكتور لويس عوض ظهر عليهم الثالثة عصرا ليطمئنهم أن الحملة إنتهت، فهدأوا نفسيا وبعدها ذهب صالح إلى جريدته في المغرب فوجد الدكتور محمد مندور أمامه فأخبره عما قاله له لويس عوض عن نهاية الحملة، فضحك مندور وأخبره أنهم قبضوا على لويس عوض قبل قليل، «ثم وجدت مندور يقول ضاحكا بمكره الريفي الظريف: ذهبت إلى المشير عامر وقلت له أني سان سيموني ولا علاقة لي بالفكر الشيوعي، فأمنه المشير ووعده بأنه لن يعتقل، استمعت إليه وأنا شديد القلق سارحا في هذه الحجة العجيبة عن سان سيمون وهل بالفعل يعرف المشير عامر ماهو مذهب سان سيمون. وانتهت الحملة بالفعل دون أن نعتقل ولم نعرف ماهي الأسباب، وخرج لويس عوض بعد عام ونصف بينما ظل بقية المعتقلون لخمسة سنوات في السجن دون أن يعرف أحد لماذا خرج ولماذا بقوا»، تماما كما لم يعرف أحد لماذا لم يعتقل صالح ورفاقه الذين نجوا بفضل صدفة تدخل محمد أبي نار، وهو ما جلب لبعضهم كيوسف إدريس إتهامات بالخيانة من بعض رفاقه ظلت تضايقه لسنين. 

 

 

 

يقول أحمد عباس صالح معلقا على هذه القصة المؤلمة «هكذا كانت الحياة السياسية في مصر بكل بساطة، لم تكن هناك جريمة معينة أو موقف سياسي خطير معادٍ يسعى أو يقدر على قلب السلطة، وكان اعتقال الناس رسالة رمزية لا أكثر ولا أقل في بعض الأحيان، ولكونك يساريا بشكل ما، كان عليك أن تحذر الفصل من العمل أو الإعتقال حسب الأحوال المزاجية أحيانا، ويبدو أن عملية الإعتقال لم تكن شيئا مقلقا بالنسبة لمصدر القرار، وأذكر أن الرئيس عبد الناصر قال في إحدى خطبه مهددا أنه ألقى في السجن عشرات الألوف من معارضيه، وأنه على إستعداد ليزيدهم عددا، وكما رأينا كان اعتقال الشيوعيين في سنة 1959 ردا على موقف لم يقبله من السوفييت، وكأن المصريين الذين اعتقلهم ليسوا مصريين، بل أتباع السوفييت ولم يكن هذا صحيحا في الواقع، وحدث نفس الشيئ بالنسبة للإخوان المسلمين».

 

 

 

هذا ولا يبقى إلا أن يختم المرء كلامه اليوم بدعوة ربه كما بدأ: اللهم إنا نتقرب إليك برفض الظلم سواءا كان ملتحيا أو حليق الذقن، اللهم ألهم أبناء وطننا التعلق بالمستقبل واقذف في قلوبهم كراهية التعلق بالماضي، اللهم وقد أردت أن تدخلنا في تجربة، فنرجوك يا مولانا أن تنجينا من الشرير ومن ضعاف الذاكرة. 

 

belalfadl@hotmail.com