المشاهد الدرامية الستة - ناجح إبراهيم - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المشاهد الدرامية الستة

نشر فى : السبت 30 مايو 2015 - 9:30 ص | آخر تحديث : السبت 30 مايو 2015 - 9:30 ص

• الضابط المسكين في عقله كان يحمل الكرباج ويضرب المساجين الجدد به وهم يزحفون على الأرض ويظن أن السوط سيمنحه قيمة يفتقدها

• كان قائد كتيبة طرة في منتصف التسعينات رجلا ً ساديا ً وكان الجنود يهتفون نشيدا ً باسمه يشيد بغزواته في ضرب المساجين الغلابة

• إذا دخلت الجماعات في العنف المسلح فلن تخرج منه إلا معجزة من السماء او بمجد قوي من بين صفوفها

مشهد (1)
• كنا فى التسعينيات أقدم الناس فى السجون المصرية.. وللأقدمية مكانتها حتى فى السجون.. وكان عنبرنا يقع خلف إدارة السجن مباشرة.. وكنا نسمع كل عدة أيام صراخا وعويلا وأنينا وبكاء مع دخول عدد من السجناء الجنائيين الجدد.. وكنت كلما خرجت للمستشفى أرى ملازم أول جنائى يحمل الكرباج ويضرب المساجين الجدد به وهم يزحفون على الأرض ومع ثلة من مخبريه يقلدونه.. فقلت يوما «لباسل بيه» وكان ضابطا عاقلا ويكره القسوة وهو الذى أول من أمسك بخيط المبادرة الأول: من هذا الضابط الذى لا عقل له؟.. قال: «إنه رجل مجنون لا يعرف من قيم الحياة شيئا ويظن أن السوط سيمنحه قيمة يفتقدها.. ولولا أننى أمنعه عن التدخل فى أمر السياسيين لضرب المرضى الذين يأتون للعلاج فى مستشفى الليمان المركزى».. وكان الضابط «باسل» يكره القسوة ولم يعذب أحدا قط فى حياته التى قضى معظمها ضابطا فى السجون.

• كان الذى يفعله هذا الضابط المسكين فى عقله مع الجنائيين يحدث مع المعتقلين الإسلاميين الجدد فى السجون النائية فى التسعينيات مثل وادى النطرون والوادى الجديد.. فكان المعتقل الإسلامى يزحف فى سجن الوادى الجديد فى أول يوم لدخوله من باب السجن إلى باب الزنزانة وهو يضرب ويشتم.

• وفى أيام الشدائد والمحن يستطيع كل ضابط أو حتى شاويش أن يزايد على أقرانه فى القسوة والغلظة والتعذيب دون نكير من أحد.. لأنه إذا سارت عجلة التعذيب وإهدار الكرامة الإنسانية فإنها لا تتوقف بسهولة.. وقد لا يستطيع الوزير نفسه أن يوقفها بمجرد الأوامر وقد أقرأنى فى يوم من الأيام أحد الضباط الكبار أمرا مكتوبا ومرسلا من اللواء حبيب العادلى إلى السجون فى أواخر التسعينيات بحسن المعاملة فى السجون ووقف أى ضرب أو إهانة للمساجين.. ولكن هذا الأمر كان حبرا على ورق حتى جاء العام 2001 وذهب اللواء / أحمد رأفت ــ رحمه الله ــ بنفسه إلى كل السجون والمحافظات وخاض معركة شرسة لعمل مراجعة لأفكار ضباط السجون وأفرع الأمن فى المحافظات.. وكان لجولات الرجل الميدانية أثر السحر فى تغيير هذه الأمور فى عدة سنوات.

مشهد (2)
• ذهبت إلى السجون كلها فى بداية المبادرة محاضرا مع إخوة فضلاء آخرين على رأسهم مهندس المبادرة الشيخ كرم زهدى فأحصيت بين المعتقلين 13 قزما.. قلت لنفسى يومها: كيف يقبض على هؤلاء وما هى خطورتهم الحقيقية ومعظمهم ظل فى السجون معتقلا لسنوات.. وأطلقوا جميعا بعد المبادرة وفى أولى خطواتها الانفراجية.

والطريف أننى قابلت بعضهم بعد ذلك خارج السجون.. وسألنى أحدهم وكان من أرمنت أنه يريد عملا بعد أن سدت أمامه أبواب الرزق.. وكان ذلك بعد ثورة 25 يناير حيث انطلقت الآمال الحبيسة فى عيش كريم.. ولكن هيهات لمثلى أن يحقق كل ما يرجوه الناس منه.

مشهد (3)
• ذهبت إلى سجن أبى زعبل محاضرا أثناء المبادرة فوجدت شابا مبتور القدمين من بين المعتقلين فسألته.. كيف عشت فى هذه الظروف أثناء إغلاق الزنازين.. وليس هناك كرسى متحرك ولا أى شىء.. قال: كنت أزحف على الأرض.. وكانت المشكلة الأكبر فى دخولى دورة المياه.. حيث إن دورات السجون كلها «بلدى».. وكان وقت دخولى لها هو وقت العذاب الحقيقى.
قلت لنفسى: إذا كان مثل هذا المعاق خطرا فليعامل معاملة كريمة هو وأمثاله ويفرج عنه سريعا إذا زال الخطر.. أما أن يظل 9 سنوات معتقلا دون رعاية فهذا هو الشطط.

• لقد أحصيت وقتها عددا كبيرا من المعاقين فى السجون.. لم يكلف أحد نفسه حتى بالاهتمام بهم أو حتى يكون لهم وضع خاص عند ضرب السجناء أو تفتيشهم حيث إننى كنت أحسب هؤلاء الجنود قد غاب عنهم عقلهم أثناء الضرب.

• ولذلك قام الإخوة بجهودهم وأموالهم بعد المبادرة بتحويل جميع الدورات إلى إفرنجى مع تغيير كل منظومة السباكة فى السجون.. المهم السماح بدخول أدوات الإصلاح وقد حدث ذلك وهذا جيد فى حد ذاته.

مشهد (4)
• كان قائد كتيبة طرة فى منتصف التسعينيات عميدا اسمه «عمر» وكان رجلا ساديا وكان الجنود يهتفون نشيدا باسمه يشيد بغزواته فى ضرب المساجين الغلابة وأوله «عمر بيه.. يا عمر بيه».. وكان الرجل يعشق إلقاء قنابل الغاز على عنابر المساجين بعد التفتيش الذى هو أقرب للتكدير والاستيلاء على متعلقات المساجين.

وكان يعتبر هذه القنبلة تحية لكل عنبر فى نهاية التفتيش.. وكانت القنبلة تحدث آثارا كارثية وخاصة على مرضى الصدر والقلب وهم فى مكان مغلق.

وقد ضبط هذا الرجل المجنون وهو فى أحضان سكرتيرته فى مكتبه وضبط وهو يستولى على مرتبات الجنود الغلابة الذين أنهوا خدمتهم فجوزى بإنهاء خدمته من الشرطة قبل أن يبلغ رتبة اللواء.. ولو علم الجنود أنه كان يسرقهم باستمرار ما هتفوا له.

قلت لنفسى: أيجمع هذا الرجل كل السوءات سادية وخيانة زوجية وسرقة ثم لا يرحم غيره؟!

مشهد (5)
كان هناك رائد سكير اسمه «خضر» وكان يضرب المعتقلين الإسلاميين الجدد مع أنه لم تكن هناك أوامر محددة بضربهم ولكن فقط بالتضييق عليهم.

وكنت كلما قابلت هذا الضابط أوصيته بحسن معاملتهم.. فيذهب إليهم فيضربهم قائلا: كلما أوصانى شيخكم هذا سأزيد فى ضربكم.. فتوقفت عن نصحه.

وكان «خضر» مغرورا فإذا مر بباب من أبواب السجن ضربه بقدمه دون أن يفتحه برفق بيده كما يفعل كل الضباط.

وفى إحدى النوبتجيات الليلية لخضر مع ضابط شريف ونظيف أقدم منه إذا بخضر يتناول الخمر فى السجن وهو يلبس الشورت فقط فأنكر عليه «أشرف» ذلك.. فلم يتحمل خضر النقد فتشابكا بالأيدى وتم نقل خضر ثم وقفه بعدها بسنوات لسلبيات أخرى ضبط بها.

قلت لنفسى: ماذا يضير أمثال خضر لو أنهم عاملوا هؤلاء معاملة حسنة ليس من أجلهم ولكن من أجل الله؟.. ولكن هيهات.. هيهات فسكرة السلطة أقوى من سكرة الخمر.

مشهد الختام (6)
• كانت هذه خمسة مشاهد من زمن التسعينيات قبل انطلاق مبادرة منع العنف.. أما بعدها فالوضع قد انعكس تماما.. فالسجون السياسية لا يدخلها أحد ولكن يخرج منها العشرات بين الحين والآخر.. ويودع الخارجون كل عدة أيام بالهتافات والأناشيد والفرحة فى القلوب والدموع حتى باب السجن فى مشاركة جميلة من المأمور وضباط المباحث والأمناء.. ومجموعات كثيرة من الإخوة يصلحون كهرباء السجن وآخرون للسباكة وفريق ثالث يدهن السجن.. والامتحانات للطلبة فى مدرسة السجن بعد أن كانت ممنوعة.. والكتب كلها تدخل دون استثناء.. والطعام أصبح جيدا فالفول بلا سوس بعد أن كان سوسا فيه بعض الفول.. والأرز بلا دود.. والعجول تذبح فى عيد الأضحى فى السجن كهدية من مصلحة السجون وتوزع على الجميع.. ومسرحيات يقدمها الإخوة فى الأعياد من تأليفهم وإخراجهم يحضرها ضباط المباحث والمأمور أحيانا.. فضلا عن المسابقات والزيارات وصلاة العيد التى كان يحضرها الضباط وهناك رعاية اجتماعية للفقراء فى الأعياد.. وعشرات الحاصلين على الشهادات المختلفة بدءا من الليسانس وحتى الدكتوراه.. وأكثر من ألف معتقل يزورون بيوتهم للعزاء فى والديهم أو للتهنئة فى زواج أولادهم.. أو لرؤية والديهم المرضى.. وبعضهم كان محكوما عليه بالإعدام فذهب وعاد دون ضجيج أو خلل للأمن.. أو محاولة للهروب.

كل ذلك الذى يشبه المعجزة صنعه رجال مخلصون كان على رأسهم رجلان هما كرم زهدى والمرحوم اللواء أحمد رأفت.

خلاصة المشاهد
وقد خلصت من هذه المشاهد كلها إلى ما يلى:

• أن الجماعات إذا دخلت فى العنف المسلح فلن تخرج منه إلا بمعجزة من السماء أو بمجد قوى من بين صفوفها.

• أن الدولة إذا دخلت فى دهاليز التعذيب وإهانة الكرامة الدينية والإنسانية لخصومها السياسيين فلن تخرج منها إلا بمعجزة أيضا أو بمجدد قوى من قادتها.

• أن الدول إذا واجهتها بالعنف والسلاح تفقد حكمتها وبوصلتها وعقلها ورحمتها وشفقتها وقانونها أيضا.. وكذلك الجماعات تفعل ذلك.

• لقد خلصت إلى أن القائد الفاشل هو الذى يدخل أبناءه وتلاميذه فى معارك عبثية تدخلهم إلى السجون والمعتقلات بلا جدوى.. ثم يسعد باتهام خصومه بكل الموبقات وكأن هذا الاتهام سيخرجهم من السجن ويجعل جل همه شتم خصومه لا إنقاذ أبنائه وتلاميذه حرصا على جاهه.

• دخول السجن فى بلادنا والعالم الثالث سهل ميسور والخروج منه أشق من الخروج من نار جهنم «فالرب رحيم والدول عادة لا تعرف الرحمة ولا التسامح مع خصومها».. وإغلاق السجون سهل وسريع وفتحها صعب وبطىء.. وإهدار الكرامة الدينية والإنسانية سهلة جدا.. ورعايتها والمحافظة عليها صعبة جدا.

• لن يسمع صوت الأذان إلا إذا سكن صوت الرصاص.. فمتى أغمض السيف من الجميع فتوقفت الشتائم.. واستمع الناس لنداء الصلاة «حى على الفلاح».. فإذا كان هناك عنف وصراع سياسى محتدم فلا دعوة ولا دين ولا خلق.. وراجعوا كيف كان يسب أعظم الصحابة الإمام على أيام الفتنة الكبرى على المنابر.

• من لم يرحم تلاميذه وأبناءه فلا ينتظر أن يرحمهم أحد أو يشفق عليهم أحد.. وعليه قبل أن يطلب من الآخرين أن يرحموا أبناءه عليه أن يتخذ من الخيارات المباحة ما يرحمهم ويجنبهم البلاء الذى لا يطيقونه.

• « وَالصُلْحُ خَيْرٌ » هى أعظم وأقصر وأبلغ آيات القرآن التى أزعم أن المصريين عامة والحركة الإسلامية خاصة لم ولن تفقه معناها إلا بعد قرون طويلة.. فالكل عاشق للحرب والنزال والشتائم والسباب والمعارك العبثية.

• فسلام على صانعى السلام.. وسلام على دعاة الصلح والمصالحة.

• سلام على كل من يبيع جاهه ليحقن الدماء المعصومة وكل الدماء معصومة وليحفظ أعراض الناس.

• إننى أتقرب إلى الله بدورى فى مبادرة منع العنف أكثر من أى طاعة أخرى.. فهى التى أنقذت الآلاف من محن لا يعلمها إلا الله.. ولا يعرفها إلا أمثال العبد لله.

التعليقات