تضامنا مع المودعين عن بعد! - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:23 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تضامنا مع المودعين عن بعد!

نشر فى : السبت 30 مايو 2015 - 9:20 ص | آخر تحديث : السبت 30 مايو 2015 - 9:20 ص

خلال سنوات الدراسة والعمل فى ألمانيا بين 1993 و2002، كان لى بعض الأصدقاء العراقيين والإيرانيين الذين فرض عليهم طغيان صدام حسين وتصفيته المستمرة لمعارضيه أو فرض عليهم استبداد الجمهورية الإسلامية وانتهاكاتها المتكررة للحقوق وللحريات الفرار من الوطن والبحث لذويهم ولذواتهم عن ملاذات بعيدة آمنة، وجاءت بهم اختياراتهم أو ساقتهم أقدارهم إلى برلين ومدن ألمانية أخرى.

لم يكن أصدقائى من العراقيين والإيرانيين كغيرهم ممن عرفت من العرب أو الشرق أوسطيين الآخرين المقيمين فى ألمانيا، واختلفوا كثيرا عن الجاليات التركية والفلسطينية واللبنانية والمصرية. فالأتراك قدموا منذ خمسينيات وستينيات القرن العشرين بدوافع العمل والادخار، وفرت الأجيال المتعاقبة من الفلسطينيين إما من مصائر احتلال الوطن والعنصرية الإسرائيلية والاستيطان الإجرامى أو من بؤس حياة مخيمات اللجوء فى الجوار العربى لفلسطين. أما الأسر اللبنانية فبحثت فى ألمانيا عن نجاة من جحيم الحرب الأهلية فى سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين واستطاعت كعادتها توظيف مهاراتها الجماعية لوضع مواطئ قدم اقتصادية وتجارية ناجحة فى الأماكن التى حلت بها، بينما استقرت الجالية المصرية محدودة العدد فى ألمانيا لدوافع العمل وانخرطت منها أقلية صغيرة فى مراحل التعليم الجامعى وتواجد نفر قليل على الهوامش ممن ساقتهم السياسة والقناعات اليسارية إلى ألمانيا الشرقية السابقة (جمهورية ألمانيا الديمقراطية 1949ــ1990) ثم ورثتهم ألمانيا الموحدة فى 1990 وأورثتهم هى نظامها الرأسمالى (الذى كان قد ترسخ فى ألمانيا الغربية السابقة 1949ــ1990).

•••

فى مواقع أخرى تواجد أصدقائى من العراقيين والإيرانيين؛ فقد كانوا جميعا من حملة الشهادات الجامعية العليا ومن أصحاب تخصصات علمية مكنتهم من الالتحاق بوظائف مرموقة، ونجحوا فى الاندماج فى الدوائر الاجتماعية والثقافية المحيطة بهم، ولم يقبلوا أبدا الحياة على الهوامش ــ ومازالت ذاكرتى تختزن الكثير من لحظات النبل الأخلاقى والود الإنسانى الخالص للصديق العراقى الدكتور محمد السعدى، طبيب الأسنان اللامع فى برلين، والصديق الإيرانى الدكتور على شيرازى، صاحب المؤلفات الأكاديمية الأهم عن الدستور والقانون والسياسة قبل الثورة وتأسيس الجمهورية الإسلامية فى 1979 وبعدهما والذى تشرفت بالتزامل معه فى قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة برلين.

•••

فر الأصدقاء العراقيون والإيرانيون من أوطانهم بعد أن أحرقتها نيران الديكتاتورية والطغيان والاستبداد والتطرف، فروا بمفردهم فى مقتبل حياتهم المهنية والعلمية أو مع أسرهم تاركين وراءهم أهلا وذكريات وبقايا حياة لم يرد لهم استكمالها. فروا، بعضهم عبر دروب خطرة ووعرة، وحيل بينهم وبين العودة إلى أوطانهم بعد أن صنفوا كهاربين أو معارضين أو زيفا كمتآمرين على «المصالح الوطنية»، وأبلغوا عبر الأهل أو الأصدقاء بنزع ملكياتهم الخاصة وبطردهم من وظائفهم وبالبطش الذى ينتظرهم إن هم فكروا فى الاقتراب.

وعلى الرغم من ذلك، لم يقترب من عرفت من الأصدقاء العراقيين والإيرانيين من مجموعات وحركات معارضة نظام صدام حسين والجمهورية الإسلامية التى كانت تستوطن الخارج، وكانت لهم تحفظاتهم على تشوهات المعارضة هذه التى أحدثها بها إما الاستتباع الكلى أو الجزئى للمال وللمصالح الأجنبية أو أنتجتها هيمنة الأفكار الرجعية على قياداتها وكوادرها ــ كطائفية ومذهبية وطغيان النزوع الانتقامى على الكثير من معارضى نظام صدام حسين فى الأوساط الشيعية ــ أو سببها انتفاء الواقعية عن مقولاتها ونزوعها المتصاعد إلى العنف ــ كوضعية حركة مجاهدى خلق اﻹيرانية. غير أن أصدقائى العراقيين والإيرانيين لم يتنازلوا أبدا عن حقهم فى التعبير الحر عن الرأى، وفى النقد العلنى للأوضاع الكارثية فى أوطانهم، وفى الدعوة إلى التغيير السلمى باتجاه الحربة والديمقراطية إن بالمشاركة فى تظاهرات وتجمعات سلمية تندد بالاستبداد ــ كما كان يفعل محمد السعدى دوما ــ أو بالكتابة الأكاديمية والمداخلات الإعلامية ــ كما تميز على شيرازى.

•••

بالقرب من الأصدقاء العراقيين والإيرانيين تعلمت كيف يصبح التفوق المهنى والعلمى طوق النجاة من عذاب الحياة فى المنفى، وسبيلا للاندماج فى المجتمع الجديد. معهم أدركت كيف تتحول متابعة أوضاع الأوطان عن بعد إلى عمل يومى يضنى ذهنيا ونفسيا، وكيف يمكن المزج بين توجيه النقد الحر للاستبداد ومواصلة الدعوة السلمية للتغيير باتجاه ديمقراطى وبين الامتناع بصرامة ونزاهة عن التورط فى الاستتباع لمال أو مصالح خارجية أو فى تأييد معارضات رجعية وعنيفة – لم يكن لها فى العراق غير أن تدمر المواطن والمجتمع والدولة الوطنية وتخضع ثلاثتهم لطائفيتها ومذهبيتها ونزوعها الإجرامى للانتقام بعد أن مكنهم من ذلك فى 2003 الغزو الأمريكى والتغول الذى أعقبه للنفوذ الإيرانى.

معهم شاهدت سطوة الألم والحزن فى ملامح الوجوه وطالعت قسوة مشاعر الوحدة والاكتئاب والرغبة فى العزلة عندما تتكالب على الجسد وتستلب لغته، حين كانت المفجعات الشخصية تساق إليهم حاملة نبأ رحيل الأم أو الأب أو الأخت أو الأخ أو صديق من المقربين وهم فى منافيهم غير قادرين إلا على الوداع عن بعد وبينهم وبين العودة إلى الأوطان واقع القمع وخطر التعقب وانتهاكات الحقوق والحريات.

شاهدت، وأيقنت أن واجبى الأخلاقى والإنسانى الوحيد فى مثل هذه اللحظات هو التعاطف، والتضامن، والتعبير عن احترام الألم والحزن، والدعاء بالرحمة والصبر والسلوان. أيقنت أن ذلك هو أيضا واجبى فى لحظات مشابهة كثيرا ما فرضت آلامها على محيطى الشخصى والمهنى أو يتواصل اليوم اصطدامى بها كمتابع لشئون الناس؛ لحظات عجز فقراء الجاليات المصرية فى الشرق والغرب عن تدبير المال اللازم للعودة إلى أوطانهم حال رحيل الأهل والأصدقاء، أوضاع المهاجرين غير الشرعيين الذين لا يرغبون فى مغادرة ملاذاتهم «الآمنة» قبل أن تنضبط قانونيا إقامتهم وتستقر نسبيا حياتهم، أحوال الذين خرجوا من ديارهم وبلادهم بسبب خطر القمع والتعقب والانتهاكات وبسبب السلطوية التى تورثهم الخوف على الغد وتشعرهم بغربة شديدة عن الوطن الذى نشدوه ولم يتخلوا عن تمنيه واقعا جديدا وجميلا.

•••

إلى الصديق باسم يوسف بعد رحيل والده رحمه الله، وإلى الكثيرين الآخرين من غير المعلومين للرأى العام الذين، ولأسباب يتداخل بها السياسى والاجتماعى مع المالى والقانونى، لا يقدرون إلا على «الوداع عن بعد»، إليكم جميعا خالص التعاطف والتضامن واحترام الألم والحزن ــ تماما كما أتعاطف وأتضامن مع من يمرون بلحظات الوداع القاسية للغاية التى يفرضها الإجرام الإرهابى على ذوى الشهداء وتفرضها الانتهاكات على ذوى الضحايا ومن ثم على الوطن ككل.

عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات