القضاء «مسئولية ــ مبادئ ــ رجال ــ مهارات» 5 ــ الأنبياء والقضاء - ج - جمال قطب - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 7:17 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القضاء «مسئولية ــ مبادئ ــ رجال ــ مهارات» 5 ــ الأنبياء والقضاء - ج

نشر فى : الثلاثاء 30 مايو 2017 - 10:00 م | آخر تحديث : الثلاثاء 30 مايو 2017 - 10:00 م
مرة أخرى يطوف بنا القرآن الكريم ليلقن البشرية آداب القضاء فى مستوى آخر يجب أن يلتفت إليه المشرعون ثم القضاة ثم سائر من يتعرض لمسئولية العمل العام. هذا درس مزدوج شقه الأول فى قضاء التأديب حيث يهمل المسئول فى مهام وظيفته، والشق الآخر للدرس هو عدالة القضاء ووجوب عدم تجاوزها.
ــ1ــ
يقص القرآن الكريم خبر هذا الدرس ((وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ)).. نلمح أولا أن القضية قد عرضت مرتين، فى كل مرة على قاض غير الآخر، وهذا يعلمنا أن تعدد مستويات التقاضى سنة إلهية اتبعها الأنبياء. ففى هذه القضية التى أمامنا شهد الله جل جلاله بسلامة الحكمين ((وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ)) على الرغم من اختلاف الحكمين اختلافا واضحا...
كما نلمح أن كل قاض منهما ــ داود وسليمان ــ لم يكن منفردا ساعة أن أصدر الحكم بل كان له مستشارون مساعدون.. نعم فهمنا ذلك من صيغة الجمع فى قوله تعالى: ((لِحُكْمِهِمْ)) مع أنهما اثنان منفردين.. فصيغة القرآن ((حُكْمِهِمْ)) تدل على أن المحكمة لم تكن مجرد قاض جنائى بل كانت هيئة، وفى هذين المبدأين: مبدأ تعدد مستويات التقاضى ومبدأ جماعية هيئة المحكمة، نرى رقيا سبق البشرية فى الاهتداء لهذه المبادئ العظيمة.
ــ2ــ
أما القضية فهى قضية المسئولية العامة: فهذا راعى غنم يودع الناس غنمهم أمانة عنده يتولى «السروج» (السير بحثا عن الطعام)، ومهمة الراعى على الرغم من ظاهر بساطتها فإنها تشبه إلى حد كبير رعاة البشر من الملوك والحكام، وغالبية الرعية دائما لا تستطيع التفاهم مع راعيها كما لا يستطيع الغنم مع راعيه.. وهنا تبرز مسئولية الراعى: فهو مسئول عن حراسة الغنم وطعامه وشرابه وسلامته وعودته آمنا لأصحابه (غنم القوم) وحراسة الغنم وظيفة ضخمة فهو يحرسها من الذئب والوحوش، ويحفظها من هاوية السقوط من الجبل، ويحفظها من السير فى طريق لا ماء فيه فتموت عطشا، أو يذهب بها فى طريق يتعثر عليه العودة منه إلخ.. وقد كان.. فقد وقعت حادثة من نوع غير منتظر لدى الراعى.. فالراعى قد اختار طريقا آمنا مناسبا لا توجد فيه سلبيات تخيف، ولذلك استحل الراعى لنفسه أن يتغافل عن الغنم.. فليس ثمة خوف من ذئب أو جوع أو تيه لكن الشر جاء من ناحية أخرى... فقد فرّ قطيع الغنم مع راعيه اللاهى على حقل مزروع فانطلق الغنم إلى الزرع فأكل ما أكل وأفسد ما أفسد، وما درى الراعى إلا وصاحب الزرع يرفع الصوت مستغيثا يطلب حقه الضائع... وهذا الزرع فى ذلك الوقت لم يكن مجرد قيمة مالية مفقودة.. بل زرع ومجهود ينتج «خزين الطعام» للعام المقبل كله.. وللزرع أوقات معينة ومناخ مناسب.. نعم فالقيمة المالية لا تتحقق بالعدل، فربما وجد صاحب الزرع من يبيع له وربما لم يجد.. وهكذا انتقلت القضية لساحة القضاء.
ــ3ــ
جلس نبى الله داود فى محكمته محاطا بمستشاريه ومساعديه، وجاء الدور على هذا الراعى المهمل فزعم أنه حفظ الغنم من الضباع إلا أنه لم يحرسها من العدوان على حقوق الآخرين... ونودى على الراعى وعلى صاحب الزرع صاحب الدعوى واعترف الراعى بما كان.. وهنا تفكر نبى الله داود فى شأن مثل هذا الراعى الذى يقوم ببعض واجبات وظيفته ويهمل بعضها الآخر.. لقد ترك الغنم حتى خاضت فى حقل الزارع وحدث ضرر للزارع وزرعه. وكان من الجائز أن يتناول هذا الغنم سموما ضارة مادام الراعى غافلا، فها هى غفلة المسئول إما أن تسبب الجور على حقوق البعض وإما أن تسبب الضرر للرعية.. فكيف نردع هذا الراعى عن غفلته.. فربما سببت الغفلة أضرارا أكثر.. لابد من تأديب هذا الراعى تأديبا يردعه، لذلك مارس نبى الله داود اجتهاده كحاكم مسئول عن حماية ورعاية جميع الرعية بجميع ما تملك، وهنا أصدر حكمه الرادع حيث إن الراعى مهمل لمسئوليته وهو بذلك غير مؤتمن على رعيته فقد تقرر: حرمان الراعى من الغنم وإعطاء الغنم للزارع تعويضا عما أتلفه الراعى بغفلته... نعم فجناية البهيمة مسئولية على راعيها... وهكذا سمعت البشرية جزاء الإهمال والتفتت إلى مساوئ الغفلة وإلى حق الراعى فى تأديب الغافل.
يتبع

 

جمال قطب   رئيس لجنة الفتوى الأسبق بالأزهر الشريف
التعليقات