ما أغفله الخطاب - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 11:12 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما أغفله الخطاب

نشر فى : الثلاثاء 30 يونيو 2009 - 5:43 م | آخر تحديث : الثلاثاء 30 يونيو 2009 - 5:43 م

 أوضحت فى المقال السابق، معالم شخصية أوباما، والسياق الذى تم فيه إلقاء خطابه إلى المسلمين. ولعله اختار أن يسبق هذا الخطاب بآخر إلى الأتراك لما لتركيا من خصوصية أراد إسماع أطراف عديدة رأيه بشأنها. فهى عضو فى الناتو وتسعى للانضمام للاتحاد الأوروبى، وهى قريبة من مواطن نزاع عديدة بما فيه نجورنو كرباخ، فضلا عن خلافها مع اليونان حول قبرص. وعدّد مشاغل البلدين (واصفا إياهما بالديمقراطيتين): أزمة اقتصادية لا تقف عند حدود، وتطرّف يؤدى لقتل الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، وضغوط على موارد الطاقة وتغير فى مناخ العالم، وانتشار الأسلحة الفتاكة فى أرجاء العالم واستمرار النزاعات الدامية. وقرر أنه بقدر النجاح فى حل تلك المعضلات يتحدد ما إذا كان المستقبل سيسوده الخوف أم الحرية، والفقر أم الرخاء، والنزاع أم السلام العادل الآمن الدائم. وعندما عرج إلى الحديث عن الشرق الأوسط (وهو لا يكثر من استخدام هذا المصطلح الذى لوثته بجاحات الإدارة السابقة) أوضح أن تركيا تشارك الولايات المتحدة فيما سماه هدف إحلال السلام بين إسرائيل وجيرانها، وهنا أكد أن الولايات المتحدة تؤيد بكل شدة هدف إيجاد دولتين، إسرائيل وفلسطين، تعيشان جنبا إلى جنب فى سلام ووئام، وهو ما اتفقت عليه جميع الأطراف فى خريطة الطريق وفى أنابوليس (وهما مناسبتان عف عليهما الزمن). وطالب كلا من الإسرائيليين والفلسطينيين ببذل الجهود للتغلب على المشاعر التى تراكمت، وتجاوز السياسات الراهنة للتقدم نحو سلام دائم. وذكّر تركيا بأنها دعمت التفاوض بين سوريا وإسرائيل، ودعاها للعمل معه لمد يد العون إلى الفلسطينيين ومساعدتهم على تعزيز مؤسساتهم. وهنا تحول من الحديث عن التطرف إلى ذكر صريح للإرهاب ليستخلص منه مشروعية اهتمام إسرائيل بأمنها. وفى معرض الحديث عن إيران خيّر قادتها بين بناء سلاح أو بناء مستقبل أفضل لشعبها، لتلعب دورها اللائق فى مجتمع الأمم، وتحقق اندماجا سياسيا واقتصاديا يوفر الرخاء والاستقرار. ثم أشار إلى أن تركيا تشاطر الولايات المتحدة الرغبة فى أمن وتوحيد العراق وعدم تحوله إلى ملاذ للإرهابيين. وأكد أن كلا من الولايات المتحدة وتركيا والعراق تواجه تهديدا إرهابيا يتمثل فى القاعدة التى تسعى لتحطيم العراق، وفى حزب العمال الكردستانى. وتعهد كرئيس للولايات المتحدة وكعضو فى الناتو بدعم تركيا فى مواجهة إرهابيى ذلك الحرب. وبعد إشارة لمشاركة تركيا فى التحالف ضد القاعدة فى أفغانستان أكد أن الولايات المتحدة لا تبنى علاقاتها مع العالم الإسلامى على أساس معارضة القاعدة، بل تنشد روابط أوسع تقوم على المصالح المتبادلة والاحترام المتبادل. وأعرب عن التقدير للعقيدة الإسلامية التى ساهمت بالكثير لعدة قرون لتحسين أوضاع العالم بما فيه الولايات المتحدة. ودعا للعمل على تحسين الأوضاع المستقبلية بمساعدة المزيد من الأطفال على تلقى التعليم الذى يحتاجونه، وتوفير الرعاية الصحية للمحرومين منها، وتشجيع التجارة والاستثمار من أجل تحقيق الرخاء لكل الناس. ووعد بتقديم برامج محددة خلال الشهور التالية لتحقيق هذه الغايات. واستعار مثلا تركيا يقول «إنك لا تستطيع إطفاء الحريق بإلقاء شعلات عليه». ومن ثم لا جدوى من الاستمرار فى مواجهة العنف بعنف. فالمستقبل ملك لمن يبنى لا من يبدد.

وواضح أن النقاط السابقة شكلت جوهر خطاب القاهرة الذى أضاف قضيتى الديمقراطية وحقوق المرأة، وأكد على حرية العقيدة. واكتمل الإخراج بدخول الإعلام طرفا فى التكهن بفحوى الخطاب المنتظر، وأبرزت مساهمة داليا مجاهد فى مهمة الإعداد النفسى لسماعه. ويثير هذا تساؤلا عن الداعى إلى خطاب ثانٍ وإلى إلقائه من القاهرة. إن شخصية أوباما تنفى عنه إضاعة الوقت فى عمليات مسرحية كتلك التى نشاهدها فى رئاسات أمريكية سابقة وأوروبية معاصرة؛ فهو صاحب أجندة يسعى حثيثا لتنفيذها. وهو ليس شخصية كاريكاتيرية مثل بوش الذى جنى بعض الأمريكان أرباحا طائلة من برامج تليفزيونية تتهكم عليه، كستار للعصابة التى دفعت البلاد لكوارث غير مسبوقة. فإلقاء الخطاب الذى وعد به هو خطوة نحو تحقيق أجندته. وتشير الشواهد إلى أن الهدف الأساسى هو تحريك القضية الفلسطينية نحو نهاية محددة طرح من معالمها ما يهدئ بعض ثائرة العرب، إذ لم يعد بوسع إسرائيل ولا الولايات المتحدة تحمل هزيمة عسكرية أخرى. لقد ترك أوباما إسرائيل تعربد كيف شاءت شريطة أن تكف يدها عشية دخوله البيت الأبيض؛ وعندها أعلن أولمرت أن هدف العدوان تحقق دون أن يوضح أى هدف يعنى. وكان طبيعيا أن يوجه الخطاب من القاهرة، وأن تسبقه زيارة للرئيس المصرى للمجاملة، فلا يعقل أن يتباحث الرئيسان فيما جاء أحدهما لعرضه على شعوب عدة، ولم يكن من المعقول أن يشهد مبارك إلقاء الخطاب ليجرى تأويل ردود أفعاله. وكان للقاهرة ميزة أخرى هى حضور السفير الإسرائيلى خطابا موجها إلى المسلمين، استباقا لرؤيته للمستقبل.

وكان من الطبيعى أن يجرى تشاور (وليس تلقى النصح) مع العاهل السعودى لعله تناول قضايا وتفاصيل لا تتعلق بنقاط الخطاب. غير أن الغريب أن ينهى حديثه عن القضية الفلسطينية بنصح للعرب ألا تشغلهم القضية الفلسطينية عن قضايا أخرى تشمل فى رأيه مساعدة الفلسطينيين على تطوير مؤسساتهم التى دمرتها إسرائيل، وأن يعترفوا بشرعية إسرائيل، وأن يتخلوا عن تركيزٍ لا طائل منه على الماضى! أليس هذا انشغالا بالعواقب الوخيمة للقضية الفلسطينية؟ إن مشكلتنا تتبدى لنا عندما ننظر إلى مستقبل ينحشر فيه كيان دخيل لا شرعية له. ولو كان منسجما مع نفسه لما أحيا مزاعم الهولوكوست التى تنتمى لماض سابق للقضية الفلسطينية، وألا يصر على ربط أمن الولايات المتحدة بأمن دولة ترتكز ذريعة إقامتها على تزييف ماض سحيق عانى فيه موسى ما عانى من بنى إسرائيل الذين بأن يدعو ربه لا ربهم.
قد يكون لأوباما كل الحق فى وعد شعبه بتغيير يزيده غنى على غنى، ويدفع عنه فاقة لا يتحملها. ولكن قائمة حسابنا مع الولايات المتحدة تظل طويلة تتجاوز القضايا الست التى أجاد فى ترتيبها وعرضها. لقد وضع فى مستهل حديثه التوتر الأمريكى الإسلامى فى سياق علاقات مع الغرب عامة تخللتها حقب استعمار. نذكّر سيادته أن لنا علاقات، بعضها متميز، بالمستعمرين القدامى، فهم دول أصيلة، وليسوا نبتا شيطانيا أصرت الولايات المتحدة على زرعه بين ظهرانينا، ووضع هو أمنها فى المقدمة. لم يحدثنا عن متى يخلصنا من مهانة الكويز التى تضع اقتصادنا فى وضع أدنى من اقتصادها. لم يتحدث عن الكيفية التى سيتعامل بها مع حق الفيتو الذى حرمنا من إنصاف مؤسسة أريد لها أن تكون دولية، فحرصت دولته على شل فاعليتها. لم يتحدث عمن سيعوضنا عن الانصياع لتوافق واشنطون الذى انهارت أسسه فى واشنطون ذاتها. لم يتحدث عن تحرير المؤسسات الاقتصادية الدولية من قبضة الولايات المتحدة التى جعلتها سياطا تلهب اقتصاداتنا وترفع قائمة فقرائنا. لم يحدثنا عن حماية ثرواتنا النفطية والشعوب صاحبة الحق فيها من الأطماع الأمريكية، وعن تعويضنا عن ثروات تبخرت بعد سحب ملايين الأطنان من النفط كان ينتظر لها أن تكون سندا لأجيال مقبلة. لم يحدثنا عن حل مشكلة الغذاء التى تضيف الملايين إلى قائمة الجياع، من أجل ملء خزانات السيارات التى انهارت شركات منتجيها بالوقود، وعن العمل على إنجاح جولة الدوحة. لم يحدثنا عن إنهاء الغطرسة فى مواجهة قرارات المجتمع العالمى بشأن التعامل مع الدفيئة. لم يحدثنا فى معرض حديثه عن التعليم عن موقف الأمريكان من قدسية القرآن ومطالبتهم بإعادة صياغته من أجل سواد عيون الربيبة الحبيبة إسرائيل، وعن الموقف من الجامعات التى تحرّم على أساتذتها الحديث عن وجود «قوة ذكية» تعففا عن ذكر الله. لم يكن هناك ما يجبره على إطلاعنا على عزمه زيارة بوخنفالد بدعوى كونها من معسكرات قتل اليهود، ليتطرق من ذلك إلى تأكيد قتل ستة ملايين يهودى أى أكثر من إجمالى سكان إسرائيل اليوم. هل يقصد أن نحمد الله على أنهم لم يعيشوا ليطالبوا بمزيد من الأراضى؟ أم أراد أن يطمئن الصهاينة إلى أنه أمين على دعاواهم المغلوطة؟


سألتنى حفيدتى عما قصده أوباما من قوله لمبارك إنه يمتلك «خبرة عقود عديدة» وأجبتها أنها مجاملة منه. فنظرت إلىّ شذرا .. أرجو ألا تكون هذه بداية شكها فى حسن إدراكى للأمور أو فى مدى صدقى معها.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات