هلسنكى بين الأمس واليوم - علاء الحديدي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 8:37 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هلسنكى بين الأمس واليوم

نشر فى : الإثنين 30 يوليه 2018 - 9:10 م | آخر تحديث : الإثنين 30 يوليه 2018 - 9:10 م

ارتبط اسم هلسنكى فى أذهان المتابعين للشئون الدولية بما بات يعرف باسم إعلان أو وثيقة هلسنكى، وهو الإعلان الذى تمخض عن اجتماع قادة وزعماء ٣٥ دولة فى العاصمة الفنلندية فى عام ١٩٧٥ إبان الحرب الباردة. وكان من بين هؤلاء الزعماء جيرالد فورد رئيس الولايات المتحدة الأمريكية وليونيد بريجينيف زعيم الاتحاد السوفيتى آنذاك. وكان من أهم نتائج هذا الاجتماع أو المؤتمر ــ والذى عرف أيضا باسم مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبى ــ ما تمخض عنه من إقرار مجموعة من المبادئ بلغ عددها عشرة. وكان أحد هذه المبادئ إقرار الحدود القائمة آنذاك بين الدول الأوروبية الـ ٣٥ المشاركة فى هذا المؤتمر. وهو ما كان يعنى الاعتراف وتكريس ما سبق أن قام به الاتحاد السوفيتى من ضم دول البلطيق الثلاثة ــ لاتفيا وليتوانيا وإستونيا، هذا ناهيك عن تقسيم ألمانيا وتكريس وضع ألمانيا الشرقية ذات النظام الموالى لموسكو آنذاك. لذلك عد الاتحاد السوفيتى نفسه الرابح الأكبر من هذا المؤتمر وما نتج عنه من مبادئ رأى فيها ما يعزز من وضعيته أمام الولايات المتحدة الأمريكية.
إلا أن التاريخ والأحداث التالية قد أثبتت أن أحد أهم مبادئ إعلان هلسنكى هذا والتى لم تحظ بالقدر الكافى من الاهتمام وقتئذ، كان إقرار المبدأ الخاص باحترام «حقوق الإنسان»، وهو ما كان فعلا يعد من أهم نتائج هذا المؤتمر، وأول مسمار فى نعش الاتحاد السوفيتى السابق. لذلك كان حكم التاريخ، أنه رغم المكاسب التى حققها بريجينيف فى ذلك المؤتمر، إلا أنها كانت مكاسب قصيرة الأجل، فى حين كان الإقرار بمبدأ حقوق الإنسان من قبل الاتحاد السوفيتى هو المكسب الحقيقى للولايات المتحدة على المدى الطويل. وهو الذى أسفر فى نهاية المطاف عن انهيار الاتحاد السوفيتى بعد نحو ١٥ عاما وتكريس انتصار الولايات المتحدة الأمريكية عليه. لذلك أصبح إعلان هلسنكى هذا مقترنا باعتراف موسكو بمبادئ حقوق الإنسان ــ حتى لو لم تلتزم موسكو به وماطلت فى تنفيذه ــ وعده المؤرخون بداية نهاية الاتحاد السوفيتى.
وها نحن نشهد قمة ثانية فى هلسنكى، اقتصرت هذه المرة على دولتين فقط هما روسيا والولايات المتحدة. ورغم ما شاع فى وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الغربية من توقعات أو تكهنات حول ما يمكن أن تسفر عنه هذه القمة من نتائج أو صفقات، إلا أن ما أفصح عنه الرئيس الأمريكى خلال المؤتمر الصحفى المشترك مع نظيره الروسى لم يتعد الاتفاق على أهمية الحفاظ على أمن إسرائيل. وكأن هذا الاتفاق كان النتيجة العملية الوحيدة لهذه القمة. حقيقة أن بعض التحليلات التى راجت قبل القمة تحدثت عن صفقة تقوم على رفع العقوبات المفروضة على روسيا على خلفية تدخلها فى شرق أوكرانيا وقيامها بضم شبه جزيرة القرم، فى مقابل تحجيم أو إخراج القوات الإيرانية من سوريا. إلا أن الرئيس الروسى دافع بكل حسم ودبلوماسية عن الوجود الإيرانى فى سوريا، مكتفيا بتأكيد العمل باتفاق فصل القوات بين سوريا وإسرائيل المبرم فى عام ١٩٧٤. وهو ما يعنى ضمنيا الموافقة على ضمان أمن إسرائيل مثلما ذكر ترامب، ولكن دون تقديم أى تنازلات فيما يخص التواجد الإيرانى فى سوريا، أو التضحية بحليفه الرئيسى فى المنطقة من أجل رفع العقوبات عن بلاده.
جاء الموقف الروسى هذا ليعكس ما بات يتمتع به بوتين من ثقة ومكانة بعد نجاح بلاده فى استضافة مباريات كأس العالم فى كرة القدم، وما حققته من إبهار على مستوى التنظيم والخدمات والتى لم يتوقعها أشد المعجبين بروسيا بوتين. هذا النجاح فى وضع بوتين/ روسيا يقابله فى الجانب الآخر تزعزع مركز ترامب بعد توتر علاقاته مع أقرب حلفاء بلاده كما وضح من اجتماعه مع أعضاء حلف الناتو فى بروكسل قبل أيام قليلة من لقائه مع بوتين، ناهيك عن المظاهرات المناوئة له أثناء زيارته المثيرة للجدل لبريطانيا بعد اجتماع بروكسل. إلا أن الحدث الأبرز كان توجيه الاتهام لـ ١٢ ضابطا من الاستخبارات الروسية بالتدخل فى الانتخابات الأمريكية ومحاولة التأثير عليها لصالح ترامب قبل ٤٨ ساعة فقط من القمة الثنائية مع بوتين، وهو ما استحوذ على اهتمام جميع وسائل الإعلام والمعلقين الذين تساءلوا عن تأثير هذا الاتهام على مركز ترامب التفاوضى فى مواجهة بوتين. هذا، ورغم أن أحدا لا يعرف ما دار فى اللقاء المغلق بين بوتين وترامب والذى اقتصر عليهما فقط ودون حضور مشاركين آخرين من وفدى البلدين سوى المترجمين الاثنين فقط، إلا أنه فى أغلب الظن أن هذا الموضوع قد تم مناقشته وجاء على حساب موضوعات أخرى. ولكن ما كان ملفتا للنظر فعلا وأثار دهشة الجميع كان موقف ترامب من الانحياز للرواية الروسية على حساب ما توصلت إليه أجهزة استخبارات بلاده من تأكيد للتدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية. وزاد الأمر دهشة واستغرابا قبول ترامب وترحيبه بالعرض الروسى لتكوين لجان مشتركة للتحقيق فى مختلف الشكاوى المقدمة بحق مواطنيهما ومؤسساتهما. وهو الأمر الذى يعنى القبول بمحققين روس داخل الأراضى الأمريكية والتحقيق مع مسئولين أمريكيين فيما يوجه إليهم من اتهامات روسية.
هذا، ورغم تراجع ترامب عن هذين الموقفين بعد عودته لواشنطن جراء عاصفة الغضب التى استقبلته به دوائر صنع القرار الأمريكية بما فى ذلك داخل البيت الأبيض ذاته، إلا أن ما سيذكره التاريخ عن قمة هلسنكى هذه أنها قد شهدت ولأول مرة اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بروسيا الاتحادية كند لها تتساوى معها وتقبل بتدخلها فى الشأن الداخلى عندما قبل ترامب بالعرض الروسى بالتحقيق داخل بلاده. حقيقة أن قمة هلسنكى الأخيرة هذه قد لا ترقى فى نتائجها لقمة هلسنكى الأولى فى عام ١٩٧٥ مثلما شرحنا أعلاه، حين اعترف الاتحاد السوفيتى السابق بمبدأ حقوق الإنسان، وهو ما مثل بداية انحدار الاتحاد السوفيتى، إلا أنه يمكن القول إن هلسنكى عام ٢٠١٨ قد شهدت هذه المرة بداية انحدار الولايات المتحدة الأمريكية حين اعترفت واشنطن ولأول مرة بموسكو كقوة عظمى بعد أن كانت تصفها فى السابق بأنها مجرد قوة إقليمية. الأمر الذى يشكل نجاحا كبيرا للرئيس الروسى الذى كان كان يسعى منذ وصوله إلى السلطة على استعادة دور ومكانة روسيا كقوة عظمى، وهو ما تحقق فى هلسنكى هذه المرة.

التعليقات