مصر «فى انتظار جودو»! - أكرم السيسى - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصر «فى انتظار جودو»!

نشر فى : الجمعة 30 سبتمبر 2016 - 9:35 م | آخر تحديث : الجمعة 30 سبتمبر 2016 - 9:35 م
قامت فى العصر الحديث ثلاث ثورات علمية أحدثت نقلات نوعية فى علوم الفيزياء والرياضيات، قام بالثورة الأولى إسحاق نيوتن «1642ــ1727» –فى القرنين السابع والثامن عشرــ صاحب نظرية «الجاذبية»، وفى القرنين التاسع عشر والعشرين جاء ألبرت أينشتين «1879ــ1955» بثورة ثانية البعد الرابع «الزمن» بنظرية «النسبية»، وفى القرنين العشرين والحادى والعشرين أقام العالم المصرى أحمد زويل «1946ــ2016» ثورة جديدة فى الرياضيات والفيزياء مثل سابقيه ولكنه تفوق عليهم بتخصص جديد شمل الكيمياء بنظرية «الفيمتو ثانية».

ومنذ فترة وجيزة رحل عنا أحمد زويل، قبل أن يحقق أملا كبيرا لبلده، أراد أن يمد يد العون لوطنه بعمل نقلة نوعية فى التعليم، فشرع بإنشاء جامعة متطورة بها مراكز بحثية، يُعيد بها أمجاد مصر فى النصف الأول من القرن العشرين، ويُعيد لها أقطاب التنوير، ودعاة التسامح، وأصحاب البطولات العالمية من أمثال: محمد عبده وعلى عبدالرازق ومصطفى مشرفة وطه حسين والسنهورى ومكرم عبيد والريحانى وأم كلثوم وأحمد شوقى وعبداللطيف أبو هيف، وغيرهم كثيرين، ولكنه للأسف لم يستطع تحقيق أمله نظرا لحرب شعواء قام بها ضده بعض الإعلاميين من خفافيش الظلام فى مسرحية عبثية لا نعرف لها سببا ولا هدفا، فضاع أمل شعب مصر الذى انتظر طويلا دون جدوى، وكان لمشروع العالم فاروق الباز «ممر التنمية والتعمير فى الصحراء الغربية» نفس المصير العبثى!

ملحمة أحمد زويل التى سعى فيها لمحاربة الجهل الذى يولد التطرف والفساد والعنف، وحاول فيها بناء جيل جديد مسلح بالعلم الحديث الذى به وحده يستطيع الشعب المصرى أن يقهر الظلم والظلمات الذى عاشت فيه مصر فى أكبر فترة فساد فى تاريخها «عصر مبارك»، وحيث اختلط فيها الحابل بالنابل، فكادت فى ظاهرة عبثية، أن تصبح جمهورية مصر «جمهوملكية»، وتُقدم لنا –هذه الملحمةــ صورة مصغرة لما يحدث من عبث فى مصر الحاضر.

***

العبث هو تيار أدبى ظهر بعد الحرب العالمية الثانية عبر بطريقته الخاصة التى ظهرت فى استخدامه للغة غير مترابطة وغير واضحة عن نتائج هذه الحرب التى خلفت ملايين القتلى وهدمت الأخضر واليابس دون سبب منطقى!

فلقد ذكرتنا ملحمة زويل بالمسرحية العبثية التى كتبها فى 1949 أحد رواد مسرح العبث الكاتب الأيرلندى صامويل بيكيت (1906ــ1989) Samuel Beckett ــالحائز على جائزة نوبل (1969)، والموسومة «فى انتظار جودو» «En attendant Godot»، والذى استوحينا منها عنوان هذا المقال، ويُعد بيكيت أحد أعظم الأدباء والمسرحيين فى القرن العشرين، وقد عمل مراسلا ومترجما، فترجم هذه المسرحية بنفسه إلى الإنجليزية بعنوان «Waiting for Godot»، وأعطاها عنوانا فرعيا «تراجيديا مضحكة».

وقد تبوأت هذه مسرحية منزلة رفيعة فى الأدب العالمى، وكان لها تأثير فى الأدب العربى لاسيما لدى توفيق الحكيم فيما يسمى بمسرح العبث، مثل مسرحية «يا طالع الشجرة».

فى الحقيقة، هذه المسرحية هى «ترجمة» للوحة الرسام الألمانى كاسبر فريدريش (1774ــ1840) الموسومة «رجلان يتأملان القمر» (1820)، (فيها رجلان مشردان معدومان يتطلعان للسماء بجانب شجرة هزيلة)، والترجمة ليست كما يفهمها العامة بأنها تنقل نصا مكتوبا أو منطوقا من لغة إلى أخرى، لأن اللغة التى تسمح بالتواصل بين «المتكلم» و«المتلقى» ليست مقصورة على اللغة المتعارف عليها مثل العربية والفرنسية والإنجليزية...، والتى تسمى باللغة الطبيعية (وتخص الإنسان فقط)، ولكن التواصل بين الأفراد –كما بين الحيوانات يمكن أن يكون بوسائل أخرى مثل الرسم والإشارة والموسيقى والرقص والرائحة...إلخ، «ومن ذلك لغة الصم والبكم»، فهذه الوسائل تسمى بـ«اللغة الاصطناعية»، وعليه فإن الترجمة بين لغتين طبيعيتين «من الإنجليزية إلى العربية مثلا» هى عملية نقل من نظام لغوى إلى نظام لغوى آخر لا يمكن الخروج عليه «Transــ coding» –بالإنجليزيةــ أو «Transcodage» –بالفرنسيةــ، والمترجم بين لغتين طبيعيتين هو مستخدم وملتزم بقواعد ونظم كل لغة، أما فى حال اللغة الاصطناعية فهى على عكس ذلك تماما، يصنعها الإنسان ويمكن التعديل والإبداع فيها كما يشاء، مثلما يحدث فى الصورة أو فى الصوت أو اللون أو الملابس...، فالترجمة من لغة اصطناعية إلى لغة طبيعية هى نوع من التفسير الحر أو الشرح للإشارات السابق ذكرها، وهذا هو ما فعله بيكيت فى تفسيره للوحة كاسبار.

***

ومن هنا نستطيع أن نقول أن «الترجمة» هى أولا «تفسير» بلغة واحدة، كما هو الحال فى تفسير القرآن الكريم، أو فى ترجمته إلى لغة طبيعية أخرى «الفرنسية أو الإنجليزية...»، وهى ثانيا تعبير أو نقل نص إلى لغة غير اللغة الأم، وثالثا يمكن أن تكون تحويلا من لغة طبيعية إلى لغة اصطناعية، والعكس صحيح، فالصورة أو اللوحة الفنية هى تعبير بلغة اصطناعية يمكن تفسيرها أو ترجمتها إلى لغة طبيعية، مثل الرسوم الموجودة على أغلفة الكتب، أو الرسوم الكاريكاتيرية التى يعبر بها صاحبها عن رأى يمكن أن يفهمه أى شخص دون معرفته للغة طبيعية محددة، ولهذا فإن اللغة الاصطناعية يمكن أن يقرأها كل البشر من كل الجنسيات دون معرفة اللغة الطبيعية لصاحبها، وهذا ما فعلته الرسوم الكاريكاتورية فى بعض الصحف الغربية فى هجومها على الرموز الدينية، فكانت أوسع انتشارا، وأكثر تأثيرا لأنها لم تقترن بلغة طبيعية معينة فاستطاع الجميع قراءتها.

وتكشف مسرحية «فى انتظار جودو» الخيال والتفسير الخاص لبيكيت للوحة كاسبر، وتدور أحداث المسرحية، حول رجلين مُشردين ومُعدمين يدعيان «فلاديمير» ويُكنى بـ«ديدى»، و«استراجون» ويُكنى بـ«جوجو»، يقفان على أرض قاحلة بجانب شجرة جرداء، ينتظران لمدة يومين شخصا يدعى «جودو»، يريان فيه الأمل ليخلصهما من حالة اليأس والإحباط والضياع التى تسيطر عليهما، وهما يعلمان أن «جودو» لن يأتى، ولكنهما رغم ذلك ينتظرانه، فمن هو «جودو» الذى ينتظرانه؟

أثارت شخصية «جودو» «Godot» الكثير من التحليل والجدل حول المعنى المبطن لها، اعتقد البعض أنها ترمز إلى «الإله» باعتبار أنها منحوتة من الكلمة الإنجليزية «God»، ولكن بيكيت نفى هذا، وقد أثار نُقاد آخرون عدة احتمالات أخرى: هل هو إنسان وهمى يرمز للأمل، أم حقيقى يقدم المساعدة للآخرين وينقذهم مما هم فيه من شقاء؟، هل هو المسيح الذى سيجىء ليخلص الناس من المآسى والمشكلات والأحزان؟، إنه –من وجهة نظرناــ خليط من ذلك وذاك.

وقد احتوت المسرحية على عدد من المضامين الفكرية الإنسانية، وهى: إعطاء صورة صادقة وأمينة عن حال الإنسان قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، من الضياع والغربة والانطواء «نتيجة نظم سياسية ديكتاتورية»، والدعوة إلى الحرية، وكراهية الاستعباد للناس، وأخيرا انتقاد لاذع وتهكم مُر للواقع المعيشى الذى تولد قبل الحرب ولم تستطع الحرب تغييره.

***

إن المتأمل فى الواقع المصرى الحالى، لا يلمس ــ بعد ثورتين عظيمتين متتاليتين تغيرا فى أحواله، ويرى تطابقا مع أحداث ومضامين هذه المسرحية، فالرجلان المشردان والمعدمان يرمزان لحالة البؤس والضياع والفقر التى عاشها الإنسان بعد الحرب العالمية الثانية، وهما يتشابهان مع أوضاع الشعب المصرى قبل ثورة 25 يناير، وانتظارهما لـ«يومين» أملا فى تغير أحوالهم مثل انتظار المصريين لتغير أوضاعهم بعد «ثورتين»، وحالة الانتظار التى مر بها «ديدى» و«جوجو»، من القلق والمعاناة، هى نفسها التى يمر بها المواطن المصرى الذى ينتظر أملا لتصحيح أوضاعه!

وصور العبث فى الحاضر المصرى عديدة، نذكر منها أن المجلس التشريعى ــ المنوط به مراقبة احترام القوانين فى كل مؤسسات الدولةــ لا يستطيع تنفيذ حكم النقض ببطلان عضوية نائب البرلمان عن دائرة الدقى وفوز منافسه!، قضية إصلاح التعليم التى اختصرت فى إلغاء امتحانات الميدترم واستبدالها بامتحانات شهرية ثم الرجوع عنه، وكأنما إصلاح النظام التعليمى المتهرئ متوقف على أحد القرارين!، تبرئة كل الفاسدين فى العصر البائد بقوانين وضعوها بأنفسهم لتحمى فسادهم فأضعفت من قدرة المسئولين عن استرداد الأموال المنهوبة فى سويسرا، مع اهتمام السويسريين بها أكثر من المسئولين المصريين!، معاقبة شباب الثورة بالسجن لحماسهم وتهورهم ــ طبيعة الشباب التى لولاهما ما استطعنا إزاحة عصر الفساد! إن من واجب المسئولين أن يَحنوا على أبنائهم الشباب «الذين لم يرتكبوا جرائم»، ويعلموهم التعقل، خاصة من أعلن عنهم الرئيس بأنهم مظلومون.

هذا لا ينفى وجود إيجابيات ولكنها تقع أيضا فى إطار العبث!، فعندما يستطيع أبطال مصر فى الجيش والشرطة أن يهزموا الإرهاب، فيعيش المصريون فى أمان لم يتحقق فى دول أوروبية عظمى «فرنسا وألمانيا وبلجيكا وأمريكا...»، وعندما تنجح السياسة الخارجية فى الحصول على مقعد مؤقت فى الأمم المتحدة، وتستطيع إيقاف قرار إدانة ضد ليبيا، وعندما تستطيع تصدير نموذج ثورة 30 يونيو إلى ليبيا وتدعم جيشها لاستعادة آبار بتروله، وعندما تستطيع تغير صورة مصر فى العالم وتقنعهم بأن 30 يونيو هى ثورة شعب ضد التطرف وضد الحكم الدينى، إذن مصر تستطيع، فكيف لا يمكنها تأسيس دولة مؤسسات حقيقية، وأحزاب مستقلة، وسيادة للقانون، وعدالة اجتماعية، واحترام للدستور، وإقامة دولة مدنية خالصة يكون فيها الدين لله والوطن للجميع؟، أليست هذه صورة عبثية رغم إيجابياتها؟

***

هذه هى آمال الشعب المصرى التى طال انتظارها، فلا تجعلوه ييأس مع وَهْم «جودو» أو ينشد ما ردده الناس فى مسرحية توفيق الحكيم «يا طالع الشجرة هات لى معاك بقرة»!
أكرم السيسى أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية)– جامعة الأزهر
التعليقات