التربية ما بين الفِطرة والعِلم … «أدوات التربية وكيف نستخدمها» - هنا أبوالغار - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 6:00 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التربية ما بين الفِطرة والعِلم … «أدوات التربية وكيف نستخدمها»

نشر فى : الثلاثاء 30 أكتوبر 2018 - 10:55 م | آخر تحديث : الثلاثاء 30 أكتوبر 2018 - 10:55 م

هل تتذكرون قبل الإنجاب كيف نظرتم إلى طفل يسىء التصرف فى مكان عام؟ هل تتذكرون كيف قلتم لأنفسكم: «إيه الأم دى؟ إزاى ساكتة على ابنها؟» أو «إيه الأب ده؟ لو ابنى كنت عملت كذا وكذا»، ثم ننجب ونجد أنفسنا مكان هؤلاء الآباء.
إن التربية من أصعب مهامنا فى هذه الدنيا، وقد تكون أهم ما سنقوم به فى حياتنا، ومع ذلك فهى مهمة لا نتعلم عنها شيئا لا فى المدرسة ولا فى الجامعة، ووظيفة لا تتطلب اختبارا ولا إنترفيو ولا شهادة ولا امتحانا ولا مسمى وظيفيا، فأى شخص أيا كان عمره أو فكره أو تعليمه أو صحته النفسية أو الجسدية يستطيع أن ينجب. فى هذا الاختلاف رحمة وثراء، لأنه يستدعى فينا موروثنا الثقافى باختلافه، وفطرتنا التى خُلِقنا عليها، ويعطى المجتمع والعالم ثراء لأن الإنسان ليس مُنتَجا فى مصنع يحتاج إلى ضبط «الجودة». لكن هذه المميزات يصاحبها حمل على أكتافنا والتزام أن نبلى بلاء حسنا فيما أنعم الله به علينا من نعمة.
***
كلنا نحلم لأبنائنا ونجتهد أن نحقق هذه الأحلام من خلال تربيتنا إياهم، وهناك أحلام كثيرة مشتركة وأخرى مختلفة بين الأسرة والأخرى لأبنائها، فمعظمنا يتمنى لأبنائه «الصحة»، «السلامة والأمان»، «السعادة»، «النجاح»، وهى أمنيات تعتمد فى جزء منها على جيناتهم وجزء كبير على المهارات التى يكتسبونها والامتلاء العاطفى والثقة والانضباط الذى نعطيه لهم فى طفولتهم. ليس هناك «أبيض» و«أسود» فى التربية وليست هناك سن يصبح بعدها تغيير أسلوب التربية غير مجد، وكل طفلة وشابة مختلفة وكل أسرة فريدة، لكن هناك مواقف تتكرر فى تربية معظم الأطفال وقد يكون من المفيد استكشاف الأدوات التى استخدمها الآخرون للتعامل معها، وأهمها هو «فك شفرة» سوء التصرف، أن نترجم ردود أفعال أبنائنا التى لا تعجبنا فنفهم لغتهم ونختار رد الفعل الإيجابى الذى يخاطب احتياجهم ويضبط نقاط ضعفهم.
كى نفعل هذا فإننا نحتاج إلى أن ندرك أن الطفل يحتاج إلى: «ملء وعاء الاهتمام» (Attention) وبهذا نعنى أنه يحتاج إلى أن يطمئن أنه قادر أن يأخذ اهتمامنا غير المشتت والصادق لوقت من الزمن، هذا الاهتمام يعطيه إحساسا بالأمان وبأنه ينتمى إلى كيان فيه دفء وأنه مهم، وهو أمر يبدأ منذ الولادة، فالرضيع الذى يبكى إذا حملناه ونحن لا نضع تركيزنا إلا فيه فهو غالبا سيهدأ أسرع من نفس هذا الرضيع الذى نحمله ونحن نشاهد التليفزيون أو نقرأ أو نتكلم فى التليفون أثناء حمله،هذا نفسه ينطبق على كل الأعمار. ولذلك فملء هذا الوعاء بشكل يومى لمدة ربع إلى نصف ساعة يمنع كثيرا من سوء التصرف النابع من الاحتياج لجذب الانتباه، ولتكن عادة لدينا أن نتفق مع أبنائنا كُلٌ على حدة على «موعدنا الخاص» يوميا، ولنوفى بهذا الموعد دائما ونقضى فيه ربع إلى نصف ساعة بدون أن تتشتت أذهاننا فى أى هموم أو مكالمات أو مهام منزلية أو عمل، وتختار الطفلة ما تريد أن نقوم به معا ونعطيها فيه الاهتمام الذى لا يشاركنا فيه إخوتها أو عملنا، ربع الساعة هذا لكل طفل كفيل بأن يطمئنه ويقلل كثيرا من «الزن» و«الشقاوة» التى تهدف إلى جذب انتباه الأبوين، فكل سوء تصرف له شفرة يجب فكها، والزن والشقاوة المفرطة فى سن الابتدائى والإعدادى رسالة واضحة من الطفل «ركز معايا بقى!!»، فبدلا من أن نغضب فلنلبىِّ احتياجهم ونتفادى ساعات من الزن والعصبية والطاقة السلبية.
***
الوعاء الآخر الذى يحتاج ملئه هو «وعاء السلطة» (Power)، فكل الكائنات تحتاج إلى أن تحس أن لديها سلطة أولا على حياتها ومقدرتها ثم على البيئة التى تعيش فيها، وبناء السلطة وتجربتها أمر ضرورى لكسب الثقة بالنفس ولنكن مقدامين فاعلين لا مفعولا بنا.. الطفل ذو السنتين يرمى نفسه على الأرض ويصرخ إذا لم نسمح له بارتداء زى معين أو أخذ لعبة معينة فى الخروج، هو فى الحقيقة لا يريد هذه الأشياء وإنما يريد أن يكون لديه «سلطة» حتى لو بسيطة على حياته، والطفلة الأكبر ترفض الاستمرار فى تدريب الجمباز على الرغم من تفوقها فيه وتصمم على السباحة لأنها ترغب أن يكون لديها نفس هذه السلطة، والشاب فى سن البلوغ كثير «الرد» على أمه أو أبيه فكل طلباتهم تقابل إما بـ «ليه؟» أو بـ «لا» أو ــ وهو أمر أحيانا أكثر استفزازا ــ بـ «التجاهل» كلها أساليب يقول الشاب لنا بها إنه يحتاج إلى مساحة أوسع من السلطة والحرية فى تسيير يومه وأخذ قراراته البسيطة، فى الأمثلة السابقة «ملء وعاء السلطة» بالسماح للطفل باتخاذ قرارات تخصه بدون الدخول فى جدل مادامت قرارات لا ضرر فيها وما دامت مناسبة لسنه، يعطيه إحساسا بالقوة والتمكين ويجعله أكثر تعاونا أيا كانت سنه معنا. وهنا يجب أن نقاوم رغبتنا الداخلية فى السيطرة على أبنائنا والتى تزيد كلما كبروا، وإحساسنا بالتهديد من احتمال أن يأتى يوم لا يحتاجون إلينا فنتمسك بسلطتنا كآباء فنمنعهم من النمو الشخصى والانطلاق.
***
وأخيرا الطفل يحتاج إلى «الانضباط» Discipline، والانضباط هو أن نتعلم الالتزام بالقواعد (قانون البيت)، أى أن يكون لدينا «روتين» يتبع يوميا، مواعيد لأخذ الحمام اليومى وللنوم، مواعيد للوجبات ومكان خاص بها، مواعيد للعودة من الخارج للشباب فى سن المراهقة. تطبيق هذا الانضباط يستلزم التكرار فالتراخى فى تطبيق القوانين يجعل من الصعب احترامها، أيضا القدوة فى تطبيقها مهم فمن الصعب أن نفرض على الطفل غلق التليفزيون أثناء الوجبات أو الامتناع عن شرب المياه الغازية فى غير أيام العطلة إلا إذا التزم الآباء بنفس القواعد. قد يبدو أن تطبيقها يحتاج إلى ردع وأن عقاب الطفل عن عدم الالتزام بالقواعد هو وسيلة من وسائل الانضباط، لكن الحقيقة أن العقاب أسوأ الوسائل وأقلها نجاحا فهى تولد غضبا وعنادا وتجعل الطفل يرضخ بحافز الخوف بدون زرع فلسفة الانضباط بداخله فإذا اختفى الخوف لم يبق بداخله سوى ذكراه دون أثر لقيمة الانضباط والتى هى من أهم أدوات الإنسان لتحقيق ذاته فى المدرسة والجامعة والعمل. ولذلك فإن استخدام «العواقب» كرسالة لأهمية الانضباط هو أفضل وسيلة لتحقيقه، فلو قلنا للطفلة «إذا لم تنتهِ من المذاكرة فلن نذهب إلى النادى» فهذا تهديد بالعقاب يُوَلِّد الغضب والعناد والإحساس بالمظلومية، أما إذا قلنا «عندما تنتهى من المذاكرة سنذهب إلى النادى» فنحن نُمَكنِه من النتائج ونُعَرِّفه أن العاقبة مرتبطة بقرارها وفعلها. وعندما نقول للمراهق: «إذا لم ترتب حجرتك فلن أسمح لك بالذهاب لصديقك» مختلفة تماما عن أن نقول «عندما ترتب حجرتك يمكنك الذهاب إلى صديقك»، الأولى فيها فرض سلطة على طفل فى سن يحتاج فيها إلى كسر بعض القيود وإثبات استقلاليته والثانية فيها تمكينه من حياته وإعطائه الدفة ليقود (فى حدود ما تسمح به سنه).
إذا أردنا لأبنائنا الطمأنينة والسلام الداخلى فلنملأ وعاء الاهتمام وإذا أردنا لهم قوة الشخصية والثقة بالنفس فلنملأ لهم وعاء السلطة وإذا أردنا أن يلتزموا دراسيا ومهنيا واجتماعيا فلنغرس فيهم الانضباط. وفى كل الأحوال فلنشجعهم أن يكونوا أنفسهم، وأن يكتشفوها ويطوروها، فيخطئوا ويتعلموا دون خوف لأننا دائما سنحبهم ونكون سندا لهم، فكل إنسان يحتاج ــ ويستحق ــ إلى من يحبه حبا غير مشروط.

هنا أبوالغار أستاذ طب الأطفال بجامعة القاهرة
التعليقات