حصاد 2009: نهاية نهاية التاريخ - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 4:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حصاد 2009: نهاية نهاية التاريخ

نشر فى : الأربعاء 30 ديسمبر 2009 - 9:31 ص | آخر تحديث : الأربعاء 30 ديسمبر 2009 - 9:31 ص

 لعل من أهم ما يميز أحداث عام 2009 هو تداعيات الأزمة العارمة التى تفجرت فى الربع الأخير من 2008، التى أعادت إلى الذاكرة أحداثا مضى عليها ثمانون عاما، مما أشاع اعتقادا بتشابه الظواهر وبتماثل الحلول، بينما ذهب البعض إلى تصور أن الرأسمالية العاتية قد تهاوت، وحلم آخرون بأن المخرج هو استعادة الدولة سطوتها لتفتح بابا إلى طريق يعيد للاشتراكية أمجادها. والواقع أن ما حدث خلال هذا العام يشهد نهاية حقبة امتدت أربعة عقود، وأن ما سيلى 2009 لابد وأن يختلف عما سبقها، والسؤال هو: كيف؟

وبداية فإن النظام النقدى العالمى الذى وُلد فى بريتون وودز فى أعقاب الحرب العالمية، ونشأ فى كنفه صندوق النقد والبنك الدوليان، عبر عن توازن قوى فى أوضاع استثنائية خلفتها الحرب، تربعت فيها الولايات المتحدة على رأس مجموعة الحلفاء، وفى مقدمتها بريطانيا وفرنسا، وتراجع فيها دور دول المحور المهزومة، ألمانيا وإيطاليا واليابان، بينما استُبعدت دول المعسكر الاشتراكى، الذى دار فى فلك الاتحاد السوفييتى. وقامت هذه الأخيرة بإنشاء نظامها الإقليمى الخاص وفق رؤية مختارة لتطبيق الماركسية، بينما اختارت ألمانيا واليابان التركيز على إعادة بناء اقتصاديهما معتمدتين على رصيدهما من التنمية البشرية.. وهكذا أقيم النظام النقدى العالمى على أساس الذهب من خلال أسعار صرف مثبتة بالدولار الأمريكى الذى انفرد بقابلية تحويله إلى الذهب. غير أنه عندما أعادت الدول المحاربة بناء اقتصادها ــ بمساعدات أمريكية ــ بدأت تخفف من اعتمادها على الاستيراد من الولايات المتحدة، بل والتوسع فى التصدير لها، فتفاقم عجز ميزانها الخارجى، مما اضطرها إلى إيقاف تحويل عملتها للذهب، بل خفضت من قيمتها به فى أوائل السبعينيات. وهكذا أفاقت دول العالم لتجد عملاتها مرتبطة بورقة اسمها الدولار تستخدمها فى تعاملاتها الدولية، واتفق الجميع على الاحتفاظ له بتلك الوظيفة ليصبح أهم عناصر الاحتياطات التى تلجأ إليها لتغطية قيم مبادلاتها فيما بينها، وعلى أن تقوم كل دولة بتحريك سعر عملتها به وفقا لمتطلبات توازن اقتصادها مع باقى العالم.

وترتب على ما تقدم أن برزت أهمية المحافظة على قيمة العملات الوطنية، سواء فى الداخل من أجل استقرار الأسعار عند مستوى يسمح بمعدل مقبول للنمو، أو فى الخارج لضبط حركة التصدير والاستيراد. وبالنسبة للدول الرأسمالية الكبرى تغلب الاعتبار الداخلى، مما هيأ لظهور مدرسة نقودية فى شيكاغو بقيادة ملتون فريدمان، مؤكدة ضرورة عدم تدخل الدولة فى أى نشاط اقتصادى مباشر، وقيام البنك المركزى بضبط إيقاع الاقتصاد من خلال التحكم فى إصدار النقود بالقدر، الذى يكفل تمشى المتاح منها مع احتياجاته، فلا تتجاوزه لتتجنب حدوث تضخم يزعزع مسارها الاقتصادى، ولا تسمح بقصوره لئلا يتسبب فى انكماش غير مرغوب. أما الدول الأقل تأثيرا فى الاقتصاد العالمى، فقد خضعت لمراجعات صندوق النقد الدولى، الذى أوصى بأسعار صرف تتلافى حدوث عجز فى ميزان المدفوعات، وضبط الإنفاق الحكومى عند المستوى الذى يتلافى حدوث عجز ينعكس على الميزان، وهو ما اقتضى الحد من التحويلات الرسمية وبخاصة دعم الأسعار الذى يغذى مستويات مرتفعة للطلب، ومن الاستثمار المباشر بدعوى ضرورة تركه للقطاع الخاص ليوجه إليه مدخراته (إن وجدت).

غير أن ذلك التحول المفاجئ أفضى إلى ظاهرة غير مسبوقة، إذ ساد ركود لم يصحبه انخفاض فى الأسعار بل ارتفاع متسارع فيها، عالجه المنهج النقودى بالمبالغة فى أسعار الفوائد مما عمق الركود. ودفعت دول العالم الثالث النامية الثمن مضاعفا حتى أعلن بعضها الإعسار والتوقف عن سداد الديون، واشتهر عقد الثمانينيات بأنه العقد الضائع بالنسبة للتنمية، وما زالت ذيول المديونية تفتك بدول عديدة خاصة فى أفريقيا. ولم يطل الأمر بدول العالم الثانى كثيرا فسقط بدوره فى الفخ فى التسعينيات. وهنا أعلنت نهاية التاريخ، بمعنى سيادة النظام الرأسمالى المبنى على تحرير جميع التدفقات الاقتصادية والنقدية، وإدارتها من خلال أسواق مالية عالمية تتحكم فيها الافتصادات الكبرى. وفُرض على الدول النامية التخلى عن إدارة مخططة لتنمية مستقلة، واتباع برامج توافقت فيها إرادات ثلاثى واشنطن: الولايات المتحدة والبنك والصندوق ــ الدوليين اسما والتابعين لها فعلا ــ أطلق عليها اسم «الإصلاح الاقتصادى». وتبع ذلك برامج لتحول الدول الاشتراكية السابقة من نظامها الاقتصادى إلى نظام اقتصادى ليبرالى. وظن كهنة النظام الأخير أن العالم أصبح بين أيديهم، وأن إدارته حق مشروع لهم. ولكن اتضح أن الدول الرأسمالية الكبرى، لم تجد عالما ثالثا أو عالما ثانيا لتلتهمه لتكفل لاقتصاداتها البقاء، فتعين أن تستدير إلى نفسها، لتتحول من رأسمالية متوحشة إلى رأسمالية حمقاء.

فبعد أن كانت النقود تمثل الأداة التى تستخدم لتسهيل تبادل السلع والخدمات، التى تظهر للوجود نتيجة النشاط الإنتاجى للناس، بسبب اختلاف الأطراف، التى يجرى التبادل معها مما يزيل القيود التى كانت تفرضها المقايضة (التى قد تظل سائدة فى مجتمعات بدائية)، أو بقصد تأجيل إنفاق ما يتحصل منها لفترة من الزمن عملا بمقولة القرش الأبيض، الذى ينفع فى اليوم الأسود، فإن الاختلالات فى موازين المدفوعات أدت إلى تنامى ظاهرة الفوائض (التى ظن العرب أنها نعمة عندما تراكمت بين أيديهم فى السبعينيات)، وهو ما سارعت المؤسسات المالية إلى إعداد أدوات (نقدية أيضا) لتستولى بها عليها وتعيد توجيهها إلى استخدامات تدر عليها ربحا بحكم شدة حاجة أطراف أخرى لها. وهكذا بينما كانت الاقتصادات، التى عالجها الاقتصاديون القدامى بدءا من آدم سميث فى 1776 وصولا إلى جون مينارد كينز فى 1936، تعنى أساسا البنيان الإنتاجى وما يوفره من وظائف للبشر، واعتبرت النقود وسيطا يتحدد فى ضوء احتياجاتهم، ومخزنا للقيمة يغذى عملية تكوين رأس المال ليكون بدوره متمشيا معها، فإن النيوليبرالية فصلت بين الأسواق الرئيسية الثلاث، سوق المواد العينية، السلع والخدمات، سوق رءوس الأموال، وسوق النقود. بل إنها توسعت بشكل هائل فى سوق النقود التى تحولت إلى سلعة قائمة بذاتها، ساهمت الاتصالات الحديثة فى تداولها بذاتها بأحجام تفوق عشرات أضعاف الاقتصادى العينى. وفى نفس الوقت بعد أن كانت أسواق رأس المال توفر الأوعية، التى يحتفظ فيها الأفراد بمدخراتهم مقابل أصول إنتاجية طويلة الأجل تدر دخلا لأصحابها، تحولت إلى أسواق متاجرة فى تلك الأوعية، فنفت عن رأس المال صفته الأساسية ليقترب من كونه أداة نقدية تتداول بدوافع المضاربة والحصول على أرباح منها، مما ينفى عن حائزها صفة المستثمر بالمعنى الدقيق. وترتب على ذلك أنها أصبحت تعرف بالأموال الساخنة.

واتضح أن السيطرة على الأموال من خلال أجهزة مصرفية تعمل بالأسلوب الشائع أفضى إلى تضخم أحجامها وأحجام عملياتها، وأغرت باندماجات اعتبرت السبيل إلى النجاح، فإذا بها تهوى وتجرف معها عددا من البنوك الأصغر بلغ عددها خلال هذه السنة 139 بنكا. ومن الغريب أن ينظر إلى ما تقدمه الحكومة من أموال تطبيقا لنظرية كينز، لأن هذا الأخير كان يعالج حالة ضمور فى الإنتاج وما يولده من توظيف، ويدعو لقيام الحكومات بمشروعات تحفز الطلب ومن ثم الدخل فالإنتاج السوقى، مستلهما عمليات التشييد، التى قام بها قدماء المصريين فى فترات انحسار المياه والإنتاج الزراعى. إنها محاولة لمنع الانهيار الكامل. غير أن هذا لن يلغى الآثار على الجهاز الإنتاجى والتوظيف، وهو ما يعنى أن 2009 ستتركنا نواجه بدايات أزمة اقتصادية كتلك التى بدأت فى 1930، وعلينا أن نبحث عن مخرج. ولن يكون ذلك إلا بإقامة نظام اقتصادى عالمى جديد.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات