دشن الرئيس على عبدالله صالح عام 2011 بمحاولة انقلاب على الدستور، فقدمت الحكومة إلى مجلس النواب مشروعا للتعديلات الدستورية يتيح للرئيس الترشح لولاية رئاسية جديدة، مستقويا بالأغلبية البرلمانية لحزبه «المؤتمر الشعبى العام»، ومستغلا ضعف الأحزاب السياسية والنخب البديلة التى عملت خلال ثلاث وثلاثين سنة من حكمه على إضعافها، إلا أن محاولة الانقلاب جاءت فى التوقيت الخطأ، حيث كان الشباب التونسى يسطرون درسا جديدا فى العمل السياسى غير الرسمى، ومع هروب زين العابدين بن على من تونس سير شباب يمنى مسيرة إلى السفارة التونسية لتهنئة التونسيين بنجاح ثورتهم. وفى الشهر التالى، أقام شباب مدينة تعز أول ساحة للاعتصام، وبعد أسبوع ركز طلاب جامعة صنعاء وأساتذتها أنشطتهم الاحتجاجية فى اعتصام دائم بميدان الجامعة، الذى بات يعرف بساحة التغيير.
كان صالح يعتقد أن الاحتجاجات الشبابية مجرد عدوى عاطفية سرعان ما ستنتهى، لذلك حاول الانحناء للعاصفة بسحب مشروع التعديلات الدستورية، معلنا أنه لا تمديد ولا توريث، كما أعلن عن خمسين ألف وظيفة للشباب فى الجهاز الإدارى للدولة، إلا أن الشباب صعدوا أنشطتهم الثورية، وحددوا مطلبا واحدا، وهو إسقاط النظام.
ورفع الشباب لافتات مكتوبا عليها باللغة الإنجليزية: GAME OVER (انتهت اللعبة)، وهى عبارة تحمل معانى كثيرة، الأولى نهاية اللعبة السياسية التى نظمها صالح على أساس خروج المهزوم، والتى بدأها بإخراج الحزب الاشتراكى عام 1994، ثم توالى إخراج اللاعبين السياسيين والاجتماعيين، أما المغزى الثانى فهو نهاية اللعب مع الثعابين التى شبه الرئيس الحكم فى اليمن بها.
لقد سعى صالح لتحويل الصراع من سياسى إلى قبلى، لكنه لم يفلح، فلجأ بين 15 و21 مارس إلى محاولة انقلاب عسكرى مضاد للثورة الشبابية، دشنها بمجزرة بحق شباب ساحة التغيير فى 18 مارس، باتت تعرف بمجزرة جمعة الكرامة، راح ضحيتها نحو 54 شهيدا وأكثر من 200 جريح.
إلا أن الشباب ازدادوا صمودا، ما دفع كثيرا من كبار شيوخ القبائل وقادة أحزاب تكتل اللقاء المشترك المعارض لإعلان دعمهم للثورة، وانشق بعض قادة الحزب الحاكم عنه، وأعلن معظم قادة وحدات الجيش عن دعمهم للثورة، وتعهدوا بحماية ساحات الحرية والتغيير، ولم يبق على ولائه لصالح سوى وحدات الجيش العائلى، التى يرأسها أبناؤه وإخوته وأبناؤهم.
ثم تحولت الثورة من ثورة شبابية أو حركة طلابية إلى ثورة شعبية عارمة، وتشكلت كتلة تاريخية ثورية كبيرة، ما فرض تحديد هدف الثورة، وبالفعل توافقت جميع القوى التقليدية والحديثة على هدف بناء الدولة المدنية.
بات صالح على قناعة باستحالة القضاء على الثورة عسكريا، فلجأ إلى قادة مجلس التعاون الخليجى والإدارة الأمريكية طالبا التوسط لترتيب ما سماه بانتقال سلمى وسلس للسلطة، فقدم مجلس التعاون فى 24 مارس المبادرة الخليجية، التى رد عليها الشباب بشعر: «لا تفاوض لا حوار.. ثورتنا ثورة أحرار»، إلا أن السعودية استطاعت الشغط على النخب اليمنية للقبول بالتفاوض مع صالح، فرد الشباب بشعار: «لا حزبية ولا أحزاب.. ثورتنا ثورة شباب».
فقد مثلت الثورة اليمنية، كما ثورات الربيع العربى الأخرى فى تونس ومصر وسوريا وليبيا، أسلوبا جديدا فى المشاركة السياسية يمثل قطيعة مع العمل السياسى التقليدى الذى باتوا على قناعة بأنه عاجز عن تحقيق طموحاتهم.
ورغم أن المبادرة الخليجية جاءت استجابة لطلب صالح، إلا أنه ظل يراوغ فى قبولها، محاولا إعادة ترتيب صفوف القوى العسكرية والمدنية التى ظلت متمسكة بموالاتها له، والتحول من استراتيجية الحرب الشاملة للقضاء على الثورة، إلى استراتيجية الحروب الصغيرة المتتالية.
فشن ما بين 23 مايو و5 يونيو هجمات على الشيخ صادق الأحمر (زعيم قبائل حاشد) وأنصاره فى حى الحصبة بالعاصمة صنعاء، إلا أن كفة الحرب رجحت لصالح الجماعات القبلية، كما فشل فى معارك أخرى مع القبائل الموالية للثورة فى الحيمة ونهم وأرحب وبنى حشيش، إلا أنه استطاع تحقيق مكاسب سياسية كثيرة، من خلال التلكؤ فى التوقيع على المبادرة، والمطالبة بتعديل بنودها، فعدلها مجلس التعاون مرتين.
وأخيرا وقع صالح فى 23 أكتوبر بالرياض على المبادرة، لنقل صلاحيات الرئيس لنائبه، وتشكيل حكومة وفاق وطنى، برئاسة مرشح للمعارضة، تقسم حقائبها مناصفة بين الحزب الحاكم وحلفائه وأحزاب اللقاء المشترك وشركائه، مع وعد بانتخابات رئاسية مبكرة فى 21 فبراير 2012.
ما من شك بأن نظام صالح آيل للسقوط، سواء بالمبادرة الخليجية أو بالمبادرة الشعبية، وأن مطلع 2012 سيشهد هذا السقوط، إلا أن التحدى الأكبر الذى سيواجه الشعب اليمنى خلال العامين القادمين هو بناء الدولة المدنية الحديثة، والحفاظ على اللحمة الوطنية، فرغم أن خروج صالح من السلطة سيوفر إمكانية القضاء على بعض تهديدات التماسك الاجتماعى، إلا أنه سيؤدى فى الوقت نفسه إلى تعاظم تهديدات أخرى.
فسيتمكن اليمن من القضاء على خطر «تنظيم القاعدة فى جزيرة العرب»، أو على الأقل محاصرته، ذلك أن نظام صالح لم يكن راغبا فى القضاء على التنظيم لاستخدامه كفزاعة لابتزاز السعودية والولايات المتحدة الأمريكية.
كما سيتمكن اليمن من الحفاظ على وحدة البلاد، فبقاء صالح فى السلطة كان يمكن أن يؤدى إلى انفصال الجنوب، مثلما تسبب نظام عمر البشير فى انفصال جنوب السودان عن شماله. لكن فى المقابل، سيشهد المستقبل تناميا للصراع المذهبى، لاسيما محافظات صعدة والجوف وعمران وحجة، وقد بدأ هذا الصراع بالفعل، وتلعب أطراف إقليمية دورا محوريا فيه، فهو صراع بالوكالة، وليس صراعا محليا، ذلك أن المذهبين الزيدى والشافعى تعايشا فى اليمن خلال الألف السنة الماضية.. وسيمثل هذا الصراع إحدى آليات إعاقة بناء الدولة المدنية الحديثة.